زمن الطاعة وانكسار الإرادة
بين ثقافة الصمت ومحنة القرار في المؤسسات العامة، في مؤسساتنا الحديثة، لم يعُد الموظف الذي يُنفّذ التعليمات دون نقاش محل تساؤل أو مساءلة، بل أصبح النموذج الذي يُشاد به، ويُكافأ، ويُقدّم كقدوة.
نُثني على من لا يسأل، ونُرقّي من لا يعترض، ونُعلي من شأن من يردّد اللوائح كما لو كانت نصوصًا مقدّسة.
غدت الفضيلة في الوظيفة العامة تُقاس لا بعمق الفكر أو حُسن التقدير، بل بمدى الطاعة، حتى وإن كانت عمياء.
ولا أعمّم هنا، بل أصف نمطًا يتكرّر في كثير من مفاصل الإدارة العامة، حيث يتم إقصاء أصحاب المبادرة، وتقديم السلامة على الشجاعة، والتقليد على الاجتهاد.
من هو "عبدُ المأمور"؟
هو الموظف الذي جُرّدت وظيفته من الفكر، وأُعيد تشكيلها لتصبح مجرّد أداة تنفيذ.
ينفّذ التعليمات دون مراجعة، حتى وإن اكل عليها الدهر وشرب، أو إن خالفت المنطق، أو أضرت بالصالح العام.
يقدّم الموظّف سلامته الوظيفية على واجبه الأخلاقي، ويتعامل مع الأنظمة كغاياتٍ بحد ذاتها، لا كوسائل لخدمة الناس.
لا يسأل، لا يقترح، لا يعارض… لأنه تعلّم — بالخوف أو بالتجربة — أن الطاعة هي درب النجاة، وأن كل خروج عن النص مغامرة غير مأمونة العواقب.
حين تتحوّل الطاعة إلى ثقافة
ما نتحدّث عنه ليس سلوكًا فرديًا، بل انعكاسٌ لثقافة مؤسسية متجذّرة، تُربّي الخوف بدل الثقة، والانقياد بدل المسؤولية.
نظامٌ يخشى النقد، ويُعاقب الاجتهاد إذا خرج عن المألوف.
في مثل هذا المناخ، يتعلّم الموظف أن النجاح لا يُقاس بمدى الصواب، بل بمدى الالتزام بالنصوص.
والنتيجة؟ بيروقراطية بلا روح، مكاتب مكدّسة بالموظفين تُنتج أوراقًا، لا حلولًا.
مؤسسات مكتظّة، خالية من القادة، ثقافة تستهلك طاقتها في تبرير الإخفاق، لا في تجاوز التحديات.
حين لبس الوزير قناع الموظف
لا أكتب من برجٍ عاجي، بل من واقعٍ خبرته خلال عملي البرلماني، وخاصة في المجلس النيابي السابع عشر.
قدّمت العديد من المذكرات الرسمية، تتعلّق بإنصاف مواطنين لحقهم ظلم، ومسائل تمسّ الصالح العام، وفي كل مرة، كان أحد الوزراء يطلب إحالة المذكرة إلى المختصين، في مشهد يُوحي بالمنهجية والموضوعية.
لكن سرعان ما تبيّن أن تلك الإحالات ليست إلا طقوسًا بيروقراطية؛ إذ رغم صدور توصيات بالموافقة من اللجان، كان يكتفي الوزير بتدوين عبارة واحدة تكررت اكثر من مرّة "للحفظ".
توقيع … ختم … بلا تنفيذ … بلا أثر … بلا مسؤولية.
حينها قلت لنفسي: هذا ليس وزيرًا… بل موظف في عباءة الوزير.
لا اعمّمّ كرّس معاليه انه سلطة بلا قرار، وموقع بلا شجاعة.
نحتاج إلى وعي لا إلى طاعة
نحن لا نحتاج إلى موظفين مطيعين، بل إلى مسؤولين يُدركون متى يُراجعون، ومتى يقفون موقفًا أخلاقيًا.
نحتاج إلى من يرى في الأنظمة أدوات لتحقيق العدالة، لا جدرانًا يتحصّن بها ضد المحاسبة.
إلى من يسأل نفسه بصراحة:
هل هذا القرار عادل؟
هل يخدم الناس؟
هل يصبّ في المصلحة العامة؟
الخدمة العامة لا تُبنى بالصمت، ولا تنهض بالمجاملة، بل بالشجاعة الأخلاقية والانتماء الصادق إلى نهج المسؤولية، وليس إلى مسمى الموقع او المنصب.
تفكيك الطاعة يبدأ من الداخل
إن تفكيك هذه الثقافة لا يعني التمرّد على النظام، بل استعادة لروحه الحقيقية.
لدينا نظامٌ تعليمي يكافئ الحفظ ويخشى السؤال، وسلّمٌ وظيفي يُعلي الولاء ويُقصي الكفاءة، وبُنى إدارية تخلط بين الانضباط والطاعة العمياء.
فالتحرر من ذهنية "عبد المأمور" ليس خروجًا على النظام، بل وفاءٌ لجوهر الوظيفة العامة، وتجديدٌ للثقة بين المواطن والمؤسسة.
القيادة لا تُبنى بالأوامر… بل بالوعي
ليست هذه المقالة إدانة لأشخاص او لموقع المسؤوليه بذاته، بل دعوة لتغيير نمطٍ ذهنيٍّ سائد.
دعوة للانتقال من طاعة الخوف إلى مسؤولية الفهم، ومن كبت المبادرة إلى تمكينها.
لأن بين وزير "يدوّن للحفظ"، وموظف "ينتظر التعليمات"، تضيع القضايا وتضيع الحقوق، وتتآكل الثقة، وتفرغ المؤسسات من معناها،
وما لم نكسر هذا الجدار، فسيبقى كل إصلاح شكليًا، وكل تغيير بلا روح، وكل حلم… مجرّد حبرٍ على ورق.
للحديث بقية في الحلقة القادمة بعنوان "الادارات حقل تجارب"
هذه المقالة تُعبّر عن رأي كاتبها، وتندرج ضمن إطار النقد العام للأنماط الإدارية والثقافة المؤسسية السائدة، دون استهداف أو تشهير بأي شخص أو جهة بعينها، الغاية منها تحفيز النقاش حول سُبل الإصلاح الإداري وتفعيل المسؤولية العامة.
كل الأمثلة المذكورة تُطرح بصيغة عامة أو مستندة إلى تجارب برلمانية موثّقة، دون خرق لأي سرٍّ وظيفي أو إفشاء لمعلومات محمية.