بين امحُها يا علي وامحُها يا بني تثبت العظمة
د. محمد حيدر محيلان
20-06-2025 04:31 PM
مع تقلب الايام وامتداد العمر، تعلمنا ان الثابت الوحيد هو التغيير ، فكل يوم تتبدل وتتغير الاشياء، ولا يبقى على ما هو الاهو ، الله وحده الفرد الصمد ، وعرفنا ايضا انه ليس دائماً يُكتب البقاء للأقوى ، فاين الحضارات القديمة واين إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد واين عاد ؟ فلا شيء يدوم الا وجهة الله ، والبقاء دائماً للأرقى قلبًا والأعقل تدبيرًا والاكثر حكمة.
وفي معترك العلاقات، سواء كانت بين الأفراد أو بين الدول والأمم، تبقى قدرة الإنسان على التجاوز، ومهارته في العفو الواعي، سرًّا من أسرار القوة والثبات والاستمرار والبناء. فليست الحياة سطرًا مرقوما في أم الكتاب لا يتغير ولا يتبدل ، لكنها سطور تمحى وتُكتَب من جديد، فما احوجنا دائماً إلى ممحاة تبقى قريبة منّا ، لنعيدَ للنص بهاءه ، وللقلب صفاءه.. وللعلاقات آصرتها، وللنبع الصافي مجراه.
امحُها يا علي.. كانت موقفا شجاعاً حازماً صارماً ومن أهم لحظات تاريخ الاسلام الحاسمة، من الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام، وفي كواليس صلح الحديبية، حين كانت المواقف والكلمات تفصل بين الحرب والسلام، وبين العثار والدمار، طلب النبي صلى الله عليه وسلم من كاتبه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يرقم نص الاتفاق بينه وبين قريش في مداد من ذهب الايمان ومعاني العظمة التي تقطر حكمة وسياسة وادارة وذكاء، فكتب علي: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فاعترض وفد قريش ممثلاً في سهيل بن عمرو قائلاً : "لو آمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، بل اكتب محمد بن عبدالله."
فابتسم النبي ابتسامة القائد التحويلي والسياسي الواثق الحليم الكريم، وقال لعلي: "امحُها يا علي."
رفض عليّ ان يمحها، فما كان قلبه ولا يده لتطاوعه أن يمحو لقبًا يحبه الله والملائكة، ولكن النبي الحكيم الحليم العظيم، بعيد الرؤية وواسع البصيرة، أدرك بعين القائد الملهم، أن الانتصار لا يكون بالكلمات، ولا بالتشنج ولا بالمواقف الصلبة في موقف يتطلب المرونة، بل بالغايات البعيدة المطال، القريبة المنال ، والأهداف المخطط لها بدقة، فمحاها الرسول العظيم بيده الكريمة، وابقاها علي رضي الله عنه وصحبه الكرام بقلوبهم وعقولهم ونفوسهم العظيمة. هل كان هذا الموقف هواناً وذِلة؟
لم يكن هذا هواناً في الموقف ولا تنازلًا عن الحق ولا إذعانًا أو هزيمة امام الخصم، بل كان ذروة في العزة والكرامة والحكمة والسيادة؛ يعلمنا أن الكبرياء الأجوف، يقتل القضايا المليئة بالحق، بينما التواضع والمرونة تدعمان الحياة والاستمرار في البقاء الكريم، ويفتحان للدول والافراد الفسحة والانفراج لأبواب الظفر والتفوق.
هكذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التنازل عن مظاهر العز ليس ذلًا، بل ذكاء القائد البصير الذي يرى أبعد من حدود اللحظة، وإن التنازل الواعي قوة؛ قوة النفس على نفسها، وقوة الإرادة في وجه الغرور، وقوة الحكمة التي تعرف متى تنحني للعاصفة لكي لا تُقتلع المعنويات من الجذور. وليس التعنت وركوب الرأس في مرحلة وموقف التحهيز والاعداد للقوة الا رعونة وتهور وانهيار للبناء.
امحها يا بني: يذكر هذا الموقف في قصة أخرى من التراث، ليست في رحاب السياسة وقيادة الدول والجيوش، بل في قيادة الاسرة التي هي نواة الامة: تزوج شاب، فذهب إليه أبوه والعائلة ليباركوا له. جلس الأب، مباركا ومتمنيا التوفيق والتمام لابنه وزوجته، ثم طلب من ابنه أن يحضر ورقة وقلمًا، ثم - قال الأب: "اكتب." قال الابن ماذا اكتب ؟ قال الاب اي شيء تريد ..فكتب الشاب.. قال الأب: "امحُ." فمحا الشاب ما كتب.
- قال الأب: "اكتب." فكتب.
- قال الأب: "امحُ." فمحا.
تململ الشاب وقال: "بالله عليك، لم هذا كله يا ابي فانا اعرف الكتابة والقراءة منذ السابعة؟"
ابتسم الأب وربت على كتفه وقال:
- يا بني، الزواج يحتاج إلى ممحاة، ستخطئ زوجتك، وستخطئ أنت، فإن لم تحملا ممحاة في يديكما تمحوان بها الزلات والهفوات الصغيرة، امتلأت صفحة زواجكما بالسواد، واشتعل البيت نارًا من الغضب والنفور.
نعم من لا يحمل ممحاة في قلبه، ستحفر الأخطاء في جدران حياته، حتى تنهار عليه دون أن يشعر. حين تمسك الممحاة بيدك، لا تمحُ الكلمات فحسب، بل امحُ الغضب، والكبر، والضغائن والغرور، والأنا، والفوقية والتعالي، فما العمر إلا سطرٌ قصير، لا يحسن أن نتركه مشوهًا بالحقد والكراهية والتعالي، وليس من الحكمة أن نثقل صفحات حياتنا بزلات لا تغتفر، وحماقات تكبر فتصبح اخطاء مقيتة.
في البيت، كما في الدولة، كما في رحلة الحياة، من عرف متى يمحو، عرف متى يُثبت المبادىء، بين امحها يا علي وامحها يا بني ، يكمن الثبات، وتكمن العظمة وقوة الإرادة وتسطير المواقف النبيلة، والاستقرار.
انظر لأبي بكر الصدّيق حين حلف أن لا ينفق ولا يتصدق ولا يحسن الى مِسطح بن أثاث، بعد أن خاض في حادثة الإفك، المتعلقة بعائشة رضي الله عنها، فحثّه الله على العفو والصفح بقوله : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (سورة النور: 22). فهب ابو بكر من فوره قائلاً بلى يارب بلى يا رب أُحِب، وعاد لينفق على مسطح.
ان الله تعهد ان يجعل اجر المصلح والعافي عن الناس على الله نفسه فقال: (فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (سورة الشورى: 40)، ترغيبا في العفو المقترن بالإصلاح والعفو: هو ترك العقوبة مع القدرة على الانتقام، بينما الصفح: هو ترك الغضب واللوم وطمس الماضي، أما المغفرة فهي ستر الذنب وعدم المؤاخذة ونسيانه تماماً.
والله يقول في كتابه: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (الرعد39). فإذا كان الله يمحو الزلات والاخطاء بفعل الدعاء الصادق ويغير فيما أراد اذا أراد لعباده ، افلا نمحوا نحن الزلات والاخطاء، ونثبت الحسنات والمواقف الجميلة لاخوتنا واصدقائنا ومعارفنا !؟ حتى تبقى في حياتنا اجمل الصور لهؤلاء وانقاها فقط ، فهل من مُدَكِر؟ وهل انتم فاعلون؟