من دولة احتلال إلى دولة اختلال
هيام فؤاد ضمرة
23-06-2025 10:22 AM
كل المؤشرات الظاهرة على أرض الواقع تشير إلى أن دولة الاحتلال تعاني الانهيار التام أمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا وديموغرافيًا. لم يتبقَّ على رفعها الخرقة البيضاء إلا وقت قصير، تحكمه إمكانية تدخل قوى أخرى بشكل فعلي يجعلها تتنفس الصعداء. هي الآن على وشك إعلان الاستسلام، ولأن الحالة وصلت إلى حالة وجودية: أن تكون أو لا تكون، فقد بدا، كما يبدو للوهلة الأولى، أن دولة الاحتلال قد خلعت عن أكتافها جلد الثعالب الناعم، لتكشر عن أنياب توحشها، ضاربةً بعرض الحائط كل القيم الإنسانية، والقوانين الدولية، والمبادئ الدينية، لتتجرأ على ارتكاب الإبادة الجماعية، وتنفيذ خطة التجويع لأهل غزة، وإصدار بيانات كاذبة وغير حقيقية بهدف التأثير على العقل الغزاوي الصامد، ثم ارتكاب خطيئتها الشرسة بفتح جبهة الحرب مع إيران، لتتفاجأ بحجم الرد وأثره المدمّر.
الخداع الذي مارسه ترامب مع إيران في المرتين السابقتين لم يكن، في الحقيقة، عملية خداع كما يتهيأ للبعض، لأنه ليس قراره الشخصي على الإطلاق. ترامب يتقن لعب دور المهرج الأكبر، لكنه لا يملك السلطة العليا التي تخوله اتخاذ قرار شخصي يتعلق بالشأن الإسرائيلي، ذلك القرار الذي ترعاه أكبر عائلة اقتصادية على وجه الأرض، تملك أكثر من نصف الاستثمارات في الولايات المتحدة، وتنفق على العلوم العسكرية بسخاء منقطع النظير، بهدف لا يخفى على عقل لبيب.
إنما جاء تحول ترامب السريع في قراره نتيجة أوامر قاطعة من جهات أعلى منه قيمة وسلطة؛ فالرؤساء الأميركيون جميعهم لا يملكون قراراتهم كما يعتقد محدودو الذكاء، بل يتلقون أوامرهم فيما يخص مصالح اليهود والدولة المحتلة من اللوبي الصهيوني، بقيادة عائلات يهودية تملك ثلثي اقتصاد العالم، على رأسها عائلة روتشيلد اليهودية، المالكة لنصف اقتصاد العالم، والتي يخضع لها ويركع عند أقدام أفرادها، بدءًا من رؤساء الولايات المتحدة إلى حملة صولجان السلطة، وصولًا إلى البابا القائد الروحي ورجال الدين المسيحيين في أنحاء العالم كافة.
إن خيار أمريكا بالتدخل في الحرب مع إيران بشكل مفاجئ وسريع، واتخاذها قرار ضرب المفاعلات الإيرانية الثلاثة بأقوى صواريخها على الإطلاق، إنما يؤكد ما أشرنا إليه من انهيار الدولة الإسرائيلية بعد أقل من أسبوعين فقط من تلقيها الرد العسكري الإيراني، ووصولها إلى حد الاختناق التام، مما استدعى سرعة تدخل أمريكا التي ضربت بتهديدات الدول العظمى الأخرى عرض الحائط، رغم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر. وإن دولة الاحتلال اليوم تمرّ بأضعف حالاتها على الإطلاق، وأي جيش، مهما بلغت قوته، يستطيع تركيعها والمسارعة بترحيلها عن فلسطين، لو وُجد من هو جدير بالدور ويملك قرار ذاته.
فقد بلغت خسائر العدو الإسرائيلي حتى هذه اللحظة حوالي ثلاثين مليار دولار، في حين بلغت تقديرات خسائر الحرب على الإيرانيين نحو ثلاثة مليارات دولار، أي بفارق مهول يكشف الواقع الإسرائيلي المتدهور، عدا عن مشكلة قوافل المهاجرين اليهود العكسية عبر القوارب إلى جزيرة قبرص، ومنها إلى الدول التي أتوا منها واحتفظوا بجنسياتها كاحتياط. فضلًا عن الانهيار الاقتصادي الذي تتعرض له دولة الاحتلال، وتعطل الشركات والأسواق، والغلاء الفاحش بفعل الحرب، وهروب أموال المستثمرين إلى الخارج. فإسرائيل تعيش واقعًا متفجرًا ومتفاقمًا في الداخل، يُلقي بظلاله القاتمة على مستقبلها وعلى نتيجة الحرب، ولهذا استنجدت بالدور الأمريكي بأقصى سرعة، فما كان من ترامب إلا أن ينفذ الأوامر صاغرًا دون اعتراض.
ساءت تقديرات "النتن" في الحرب التي شنها أولًا على المدنيين الغزاويين العزّل، حين فشل جيشه وآلياته المتقدمة في الوصول إلى قيادة حماس أو العثور على الأسرى اليهود حتى بعد عام ونصف من الحرب، ومسح مدن بأكملها وتهجير سكانها، وتدمير حضارة الغزيين والبنية التحتية بالكامل. وفشلت كذلك كل خطط تشكيل جماعات من العملاء والخونة لشق صفوف حماس حتى هذه اللحظة، رغم حجم الدمار وتعداد الشهداء الكبير الذي أحدثوه في القطاع.
ومن الواضح أن "النتن" يتمزق غيظًا لأن كل خططه انقلبت عليه خرابًا ودمارًا، وأن حساباته لم تنسجم مع حجم الحصاد في نهاية المعركة. فقد أدّت جبهات الحرب التي فتحها إلى عدم استقرار المجتمع الإسرائيلي، وأحدثت انقسامات واضحة وظاهرة في النسيج الاجتماعي، مما ينبئ بتفاقم أزمة الانقسامات الداخلية، وتصاعد الصراعات، والانقلاب على "النتن". فهي اليوم تواجه أزمة وجودية حقيقية، كشجرة متآكلة من الداخل على وشك السقوط والانقراض.
فدولة الاحتلال تشهد حالة دكتاتورية متنامية مع استفراد اليمين المتطرف بالقيادة السياسية، مما ينذر بانهيار متصاعد في البنية السياسية نفسها، خاصةً أن التركيبة الديموغرافية فيها تجعل الوضع أسرع بالانزلاق نحو الفوضى.
تدخل الدول الكبرى لتحجيم الدور الأمريكي في دعم دولة الاحتلال عسكريًا هو الحل الذي تُعقد عليه الآمال، فهل حقًا ستتجاوز هذه الدول التهديد بالكلام، وتختبر هي الأخرى عضلاتها؟