جيل القادة .. بين الإعداد الحقيقي والتفريغ الممنهج
د. ثابت النابلسي
25-06-2025 02:24 AM
في زمن طغى فيه الشكل على الجوهر، بات مفهوم القيادة مستباحًا، متداولًا على كل لسان، حتى فقد كثيرًا من هيبته وعمقه. وأصبح كل من اعتلى منبرًا أو أدار حسابًا رقميًا يُنصَّب قائدًا، ويتصدر مشهد التأثير، دون أن يُسأل عن محتواه أو مسيرته أو حتى فهمه الحقيقي لماهية القيادة.
لقد انقلبت المفاهيم، فبدل أن نُعدّ جيلًا جديدًا من القادة، نقوم – بوعي أو بغير وعي – بتفريغ عقولهم من الأسس التي تصنع القائد الحقيقي، ونملأها بسطحية "الترندات" ومقولات تحفيزية منزوعة السياق والمعنى. نتحدث عن "تمكين الشباب" و"بناء القدرات"، لكننا نُسلم المنصات لمتحدثين من ورق، صعدوا بفعل الفراغ لا الامتلاء، وبفعل الضجيج لا الأثر.
يقول جون ماكسويل: "القائد هو من يعرف الطريق، ويسير في الطريق، ويُظهر للآخرين الطريق."
فكيف نسمّي قائدًا من لا يعرف الطريق أصلًا، ولا يمتلك بوصلة فكرية أو رؤية واضحة للمستقبل؟
في التاريخ، قادة صنعوا مسار حضارات، وأسسوا جيوشًا، وبنوا مؤسسات، ووضعوا رؤى امتدت لعقود. لم يكن صعودهم وليد صُدَف، بل ثمرة إعداد طويل وتربية فكرية وسلوكية متكاملة. وفي المقابل، نشهد اليوم ظاهرة "السقوط إلى أعلى"، حيث يُرفع من لا يستحق، ويُمنح التأثير لمن لا يمتلك المعرفة ولا التجربة، وتُفتح له الأبواب، فيغدو رمزًا فقط لأنه يجيد لفت الانتباه في عالم غلبت عليه القشور.
هذا ما أسميه اليوم بـ"القيادة الفارغة"، قيادة بلا مضمون، بلا أثر، بلا اتجاه. هي نتاج سخرية العصر، ومخرجات مشهد السوشال ميديا اختلط فيه الترفيه بالتربية، والتأثير بالاستعراض.
الأسوأ أن مؤسسات يفترض بها أن تصنع القادة – جامعات، مراكز تدريب، منظمات شبابية – باتت هي الأخرى تُسهم في شرعنة هذا الفراغ، حين تفتح منصاتها لمن لا يستحقون، وتُسوّق الوهم بدل المعرفة.
ويقول نيلسون مانديلا: "القادة الحقيقيون لا يصنعون الأتباع، بل يصنعون قادة."
فكم من المتصدرين اليوم يصنعون قادة حقيقيين؟ وكم منهم يُنتجون مجرد نسخ مكررة من الضجيج؟
جيل القادة القادم لن يُنتج بالصدفة، بل يُبنى بالإعداد الحقيقي، بالعودة إلى مناهج التاريخ، وبالاستلهام من نماذج أصيلة أثّرت في أوطانها وأمتها. لقد آن الأوان أن نستعيد هيبة القيادة ومعناها، ونضع حدًا لهذا العبث المفاهيمي الذي يسوّق للفراغ باسم الريادة.
رسالتي إلى كل مفكر ومؤسسة وصاحب منبر:
ضعوا معايير واضحة للقيادة. لا تسمحوا للفراغ أن يتنكر في صورة قائد. فجيل الغد بحاجة إلى قدوة تؤمن بالقيم، وترى المستقبل، وتعمل من أجل الناس لا من أجل الأضواء.
وختامًا، أقولها للأجيال القادمة: "لا تنخدعوا بأصحاب المنابر الرقمية. القائد لا يُقاس بصوته، بل بأثره. لا يُقاس بما ينشر، بل بما يُنجز."
اصنعوا مستقبلكم بأيديكم، واقرأوا التاريخ، وامتلكوا الرؤية، وكونوا أفضل ممن سبقكم. فالوطن لا ينهض إلا بقادة حقيقيين، أقوياء بالفكر، ثابتين بالمبادئ، مؤمنين برسالتهم.