حين تُصبح الإدارة العامة مختبرًا… لا مسارًا تراكميًا، ومنطق للتجريب في مواجهة منهج التجربة ... مشهد مألوف حدّ الوجع
في زمن تتكاثر فيه التحديات، لم تعد أزمة الإدارة العامة في الأردن كامنةً في نقص الموارد، ولا في غياب الطموح، بل في طريقة التفكير التي تُدير المؤسسات، بمنطق التجريب لا بمنهج التجربة، وكأننا أمام مختبرٍ مفتوح، تدخله إراداتٌ لم تنضج بعد، وتحكمه طموحات بلا جذر وغير مجرّبة.
بين من يرى في المنصب فرصة لتعلّمٍ متأخّر، ومن يخلط الحماسة بسداد القرار، تتآكل كفاءة القطاع العام رويدًا رويدا، وتُقصى الخبرة لتفسح المجال لشعاراتٍ فضفاضة ليس اكثر، لا تقود لإصلاح بقدر ما تُبرّر العشوائية، ويُصبح أصحاب القرار متهمين بالجمود، فيما يُستبدل منطق التراكم الذي يمنح المؤسسات استقرارها، بقفزاتٍ مرتجلة تراهن على الحظ لا على الفهم.
كيف تسلّلت هذه الذهنية إلى قلب القرار؟ ولماذا فُتحت أبواب المسؤولية لمن لا يقرأ ذاكرة المؤسسة، ولا يحمل مشروعًا يعيد لها معناها ودورها؟
ما نمرّ به ليس تحوّلًا طبيعيًا تقوده الحاجة إلى التغيير، بل انزلاقٌ هادئ نحو فقدان البوصلة؛ إذ تتحوّل الإدارة العامة من مسارٍ تراكميّ إلى فضاء مُعلّق، تتنازعه النوايا الغامضة والقرارات الارتجالية، والخبرة التي كانت تُعدّ مخزونًا استراتيجيًا لأي مؤسسة، باتت تُحاصَر بشبهة التحفّظ، وتُختزل إلى عبءٍ ثقيل يُزاح لتتقدّم "الدماء الجديدة"، وكأن النضج أصبح نقيضًا للتجديد.
لسنا في هذا النص بصدد محاكمة أشخاص، او تناول مؤسسات بذاتها، بل مساءلة منطق بات يتسلّل بصمت إلى جسد الدولة، لا نرفض التغيير، لكننا نطالب أن يستند للمنطق، وأن يُبنى على فهم ومعرفة، لا على اندفاع، فحين يُصبح "التغيير" غطاءً للهدم، ويمّحي الحاضر من ذاكرة المؤسسات، فإن ما يُنتج ليس دولة تتجدّد، بل مؤسسات تتآكل… بصمت، وبدون اي مراجعة او تقييم، فمعول الهدم نراه في بعض المؤسسات تجاوز الزمن بسنوات ويحتاج الى فترة اطول لاصلاح ما تمّ افساده.
في هذا المقال، محاولة لتفكيك هذا المشهد الفوضويّ، ومساءلة منطق "التغيير" حين يتحوّل إلى معول هدم، لا بوابة للنضج المؤسسي.
أولًا: التعيين بالتجريب لا بالجدارة
في بعض المؤسسات، حيث يُفترض أن تكون الخبرة بوصلة لا غنى عنها، والرؤية ثمرة مسارات ناضجة، يتكرر مشهد تعيين مسؤولين بلا سيرة إدارية تسبقهم، ولا مشروع وطني يرافقهم، يدخلون مواقع القرار كما لو أنهم يخوضون مغامرة شخصية وأولى تجاربهم، ومنهم لم يسبق ان ادار مؤسسه من موظف واحد، لا كأمناء على الثقة العامة، متناسين أن مصائر المواطنين ومكتسباتهم مرهونة بكل قرار يُتخذ من خلف ستار.
ليست المشكلة في حداثة عهدهم فحسب، بل في الفوضى التي يخلّفونها من بعدهم، يتعاملون مع الملفات كأنها أوراق اختبار، لا كنتاج تراكم سياسات وتجارب، يرفعون شعارات "الإصلاح" ويشرعون في الهدم قبل الفهم، يخلطون بين الحماسة والبصيرة، وبين التسرع والشجاعة، ويتوهّمون أن التغيير يُصنع بالقفزات، لا بالبناء المتدرج.
ثانيًا: إعادة تدوير الفشل... لا تدوير الكفاءات
في قلب هذه الفوضى المقنّعة مفارقةٌ مريرة، كلّما ارتفعت الشعارات المطالبة بالإصلاح، ازداد التمسك بمن ثبت فشلهم، باتت الكفاءة مؤجلة، أو مستبعدة عمدًا، أما الولاء، فتحوّل إلى عملة خفية للترقية.
هكذا لم تعد المؤسسات تُبنى على الجدارة، بل على شبكات النفوذ وتوزيع المنافع، تتكرّس الرداءة كعنوان للاستقرار، وتُواجه محاولات الإصلاح لا لقصورها، بل لما تثيره من قلقٍ داخل منظومة هشّة تخشى المساءلة وتخشى النضج.
ثالثًا: الكفاءة كخطر... والإبداع كريبة
ما نشهده ليس أزمة إدارة فحسب، بل أزمة ثقافة إدارية عميقة، حين يُختزل المنصب إلى وجاهة اجتماعية، وتُعامل المحسوبية كعرف لا كمخالفة، تصبح الكفاءة تهديدًا، ويُنظر إلى الاجتهاد بوصفه خروجًا عن النصّ المريح.
في بيئة كهذه، لا تكفي الوجوه الجديدة إن كانت تعيد إنتاج العجز نفسه، نحن بحاجة إلى كسر دورة إعادة تدوير الفشل، واستعادة المعنى الحقيقي للكفاءة، وتحرير الخدمة العامة من طغيان الولاء الأعمى، وقبل فوات الاوان.
رابعًا: من غاب جسدًا وبقي أثرًا...
في الوظيفة العامة، لا تُقاس القيمة بطول المدة، بل بعمق الأثر. هناك من غادروا مواقعهم بصمت، لكنهم ظلّوا أحياءً في ذاكرة الناس، بطريقٍ مُمهّد، أو قرارٍ عادل، أو خدمةٍ أُنجزت بضمير، ومنهم من لم تزد مدة خدمتهم عن أشهر، لكنّهم زرعوا أثرًا لا يُمحى.
يكفي أن نذكر نماذج مشرقة مرّت على مؤسسات حسّاسة في الدولة، خدمت وما زالت تخدم قطاع واسع من الاردنيين، مثل دائرة الأحوال المدنية والجوازات، حيث تحوّلت من عبءٍ بيروقراطي إلى نموذج يُحتذى في تبسيط الإجراءات واحترام المواطن؛ أو إدارة ترخيص السواقين والمركبات، التي قطعت شوطًا طويلًا قبل التحول الرقمي وخدمة الناس بكرامة؛ أو مديرية مراقبة الشركات التي شهدت نقلة نوعية في تنظيم بيئة الأعمال وتسهيل الإجراءات للمواطن والمستثمر، بدلًا من أن تكون حجر عثرة في وجههم.
هذه الإدارات لم تكن محصّنة من التحديات، لكنها اختارت أن تترك أثرًا، لا مجرد تقارير أو تبريرات، الفارق بين من مرّ وترك بصمة، ومن شغل الموقع منهم استمر عشر او عشرين سنه في مواقع اشرافية ومرّ كعابر سبيل؟ العبرة في النية… التي تصنع الفرق بين من يرى المنصب تكليفًا، ومن يتعامل معه كتشريف عابر لا يورّث إلا الظلّ.
خامسًا: كفى...
كفى لهذا الوطن أن يُدار بعقلية "الضيف العابر"، حيث تتحوّل الدوائر إلى غرف انتظار، لا إلى روافع لبناء الدولة، كفى للمواطن أن يدفع ثمن التجريب والمحسوبية مرة بعد أخرى.
إلى أولئك الذين يعبثون بجسد الدولة باسم "القرار": قد لا تشعرون بحجم الخراب الذي تخلّفونه، لكن ما تهدمونه اليوم، سيثقل كاهل أجيال قادمة وادارت لاحقة سيستغرقها وقت طويل لتصويب ما لحقها من خراب.
افيقوا، فالمؤسسات ليست لوحات بيضاء ترسمون عليها خواطركم، بل هي شرايين الوطن، ورأسمال الشعب، وأرض الحلم لمن يؤمنون بالعدالة، لا بالاستعراض؛ بالبناء، لا بالهدم.
هذا المقال لا يستهدف شخصًا بعينه، ولا جهةً محددة، بل يُعبّر عن رؤية نقديّة نابعة من الحرص على المصلحة العامة، ومن الإيمان بأن إلاصلاح لا يكون إلا بمكاشفة صادقة، تُسائل الأفكار قبل الأشخاص، وتضع المصلحة الوطنية فوق الاعتبارات المؤقتة.
فالغاية هنا ليست التهجم، بل التنبيه، لا التشهير، بل التنوير، في محاولة لاستعادة منطق العقل والتجربة في الإدارة العامّة، بعيدًا عن الاجتهادات العشوائية التي أرهقت المؤسسات وأثقلت كاهل الناس.
إن إصلاح الإدارة العامة لا يبدأ بتغيير الوجوه، بل بتغيير العقليات، واستعادة منطق التراكم والخبرة، ليعود المنصب تكليفًا لا امتيازًا، والمواطن محورًا لا تفصيلً
وللحديث بقية