القيادة الهاشمية وعزيمة النهوض
منصور الخصاونة
29-06-2025 08:22 PM
يشهد الأردن في ظل القيادة الهاشمية الرشيدة تسارعًا في عجلة التطور والتحديث، رغم ضيق الإمكانيات وتحديات الجغرافيا والموارد. لقد رسّخت الأسرة الهاشمية، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين وسمو ولي عهده الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، نهجًا إنسانيًا وتنمويًا فريدًا، أساسه القرب من المواطن، والانفتاح على قضاياه في كل المحافظات والألوية والمخيمات والبوادي. هذا النهج الملكي لا تراه محصورًا في المكاتب، بل تراه في الميدان، على الطرقات، في المدارس والمستشفيات، وفي وجوه الجنود والمزارعين والمعلمين.
وإني، وقد قاربتُ الخامسة والثمانين من عمري، استحضر بفخر رحلة عمرٍ حافلة بالعطاء والانتماء ، في خدمة الوطن. خدمتُ في صفوف الجيش العربي، ثم كنت من المحظوظين الذين أوفدهم جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال – طيب الله ثراه – إلى دولة الإمارات العربية المتحدة للمساهمة في تأسيس جيشها الوطني. ومن خلال هذه التجربة، عايشت كيف يكون الوفاء للأمة، وكيف تبنى الجيوش بالعقيدة والشرف، لا فقط بالسلاح.
إن ما يميز الحكم الهاشمي – منذ التأسيس – هو عدله وإنسانيته؛ هو حكم يرتكز على الأخلاق، ويتسلح بالعلم، ويجعل من المواطن شريكًا لا تابعًا. فرغم شح الطاقة والمياه وقلة الموارد، إلا أن الدولة تصرّ على حماية أمنها الغذائي والصحي، وتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم، في محيط إقليمي تشتعل فيه الأزمات وتتساقط فيه أنظمة.
غير أن التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم هو البطالة، لا سيما بين فئة الشباب، وخاصة أولئك الحاصلين على درجات أكاديمية عليا من ماجستير ودكتوراة. إنهم شباب تعبوا وكدّوا، فاستحقوا أن يكون لهم دور في مسيرة البناء. وعلى الرغم من تقديرنا العميق لأساتذتنا وأكاديمينا، الذين أفنوا أعمارهم في خدمة التعليم العالي، إلا أن الظرف الحالي يستدعي مراجعة التشريعات الناظمة للجامعات، وعلى رأسها بند الإبقاء على عضو هيئة التدريس حتى سن السبعين.
لقد كانت القاعدة التشريعية التي تُبقي عضو هيئة التدريس في الجامعات حتى سن السبعين مبرّرة ومفهومة عند تأسيس الجامعة الأردنية في ستينيات القرن الماضي، حين كانت البلاد خارجة من طور التأسيس، وتعاني من نقص حاد في الكوادر الأكاديمية المؤهلة. آنذاك، كان استمرار الأستاذ الجامعي بعد سن التقاعد يُعدّ ضرورة لضمان استمرارية العملية التعليمية، وحفظًا لجودة المعرفة. لكن الزمان تغيّر، وتعليمنا تطوّر، والمجتمع الأردني بات يزخر بعقول ناضجة، وكفاءات علمية من خريجي أرقى الجامعات العالمية، ممن يحملون شهادات الدكتوراه والماجستير، وينتظرون دورهم في خدمة الوطن، بعد أن أفنوا زهرة أعمارهم في التحصيل والتدريب والتأهيل.
فما كان استثناءً تفرضه قلة العدد والحاجة، لا يجوز أن يتحول إلى قاعدة راسخة تُغلق الأبواب في وجه الطامحين من شباب هذا الوطن. إن الإبقاء على من تجاوزوا الستين في مواقع القيادة الأكاديمية أو الإدارية، سواء في الجامعات أو في مؤسسات الدولة، عبر عقود شراء الخدمات أو تعيينات المستشارين "بالاسم فقط"، لم يعد أمرًا مبررًا في ظلّ واقع اقتصادي صعب، ونِسب بطالة مقلقة، خاصة بين فئة الشباب المتعلم والمبدع.
وللأسف، فإنك حين تزور وزارة أو دائرة حكومية، تسمع أن فلانًا – وقد تقاعد منذ سنوات – لا يزال يعمل كمستشار، أو كمشرف، أو ضمن لجنة، او عضو مجلس ادارة، وغالبًا بلا مسؤوليات فعلية، في الوقت الذي يقف فيه المئات، بل الآلاف، من الكفاءات الشابة في طوابير الانتظار، يبحثون عن فرصة ليبدأوا رحلة عطائهم. أولئك المستشارون باتوا كثرة، بينما الوطن بحاجة إلى روح جديدة، لا مجرد أسماء مكررة.
إن التقاعد، في جوهره، ليس طردًا ولا إقصاءً، بل هو نهاية طبيعية لدورة العطاء الوظيفي، من المفترض أن تفتح الباب أمام جيل جديد، يملك الطاقة، والرؤية، والطموح. فكيف نبني المستقبل إذا ظل الماضي مستحوذًا على الحاضر؟ وكيف نطالب الشباب بالمساهمة والانتماء، إن كنا لا نمنحهم مكانًا في معادلة الوطن؟!
لسنا ضد الخبرة، ولا ناكرين للجميل، بل على العكس، نكنّ كل التقدير لمن خدموا وبذلوا وأعطوا، ونؤمن أن لهم دورًا مهمًا في التوجيه والتدريب والبحث والاستشارة. لكن الدور القيادي والوظيفي يجب أن يُمنح لمن هم في بداية الطريق، لتجدد المؤسسات دماءها، وتحيا روحها، وتنمو قدراتها.
إن تكريس ثقافة "الاستمرار الأبدي" في المناصب يقتل روح التنافس، ويصادر أحلام الأجيال، ويُحبط الكفاءات. أما فتح المجال أمام الشباب، فهو ليس فقط عدالة اجتماعية، بل ضرورة وطنية. فجيل اليوم لا تنقصه المعرفة، وإنما تنقصه الفرصة. وإذا لم يحصل عليها اليوم، فمتى؟!
فلنجعل من التقاعد وقارًا للرحلة، واحترامًا للجهد، ومساحة لجيلٍ جديد يستحق أن يحمل الشعلة، ويكمل المسيرة. فلننهِ عهد التمديد بلا مبرر، ونبدأ عهد التمكين بلا تردد.
إن إتاحة الفرص للشباب في الجامعات والمؤسسات، لا يعني التخلي عن الخبرات، بل يعني توظيفها بذكاء في التدريب، والاستشارة، والبحث العلمي، وفسح المجال للتجديد والتطوير. فالجامعة ليست فقط مكانًا للعلم، بل منصة لصناعة المستقبل.
لقد غمرني شعور بالسعادة الغامرة، كما غمر كل أردني شريف، ونحن نحتفل بعيد ميلاد سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد الأمين، هذا الشاب الهاشمي النبيل الذي يجسّد بملامحه وسيرته ونشاطه روح الشباب الأردني، ويعبر بذكائه، وثقافته، وتواضعه، عن عقل الدولة العميقة، وضميرها المتجدد.
إن سمو الأمير الحسين لا يمثل جيلًا فحسب، بل يحمل في شخصه رؤية وطن، ويجسّد في خطواته الثابتة أحلام الأردنيين بالتحول والتمكين والتجدد. فقد تربى في مدرسة الهاشميين، مدرسة الوفاء للأمة، والاقتراب من الناس، والصدق في القول والفعل، وعُرف عن سموه منذ بدايات ظهوره في المشهد العام، انحيازه التام للشباب، وحرصه على منحهم الأمل، وتمكينهم من مفاتيح المستقبل، لا بوعودٍ نظرية، بل من خلال عملٍ حقيقيّ ومبادراتٍ مدروسة تستند إلى العلم والتخطيط والواقعية.
إن ما يميز شخصية سمو ولي العهد هو أنه لم يكتفِ بكونه نجل ملك، بل اختار أن يكون ابن الشعب، يسير بينهم، يسمعهم، يحاورهم، ويشاركهم تطلعاتهم، ويحمل قضاياهم إلى موائد القرار. في جولاته، رأيناه بين أبناء القوات المسلحة، وفي لقاءاته، سمعناه ينادي بتوطين التكنولوجيا، وتحفيز الابتكار، وتوسيع فضاءات التشغيل، وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
وفي عيد ميلاده، لا نكتفي بتهنئته، بل نستبشر به، ونجدد العهد معه، ونستلهم من سيرته دعوة للعمل من أجل شباب الأردن، أولئك الذين ينتظرون فرصتهم ليكونوا جزءًا من مسيرة البناء، لا على هامشها. فكل شاب بلا فرصة، هو طاقة مهدورة، وكل شابة بلا عمل، هي قصة طموح مؤجلة.
ولأننا نحتفل بقائد شاب، فإننا نأمل أن يكون هذا العيد مناسبة لتبني سياسات جديدة، جريئة وواقعية، تضع نصب عينيها خفض معدلات البطالة، وفتح أبواب الجامعات والمؤسسات العامة والخاصة أمام الكفاءات الشابة. نريد للفرح أن لا يظل مناسباتيًا، بل أن يتحول إلى سياسة شاملة تُمكّن شباب الوطن من الانخراط في سوق العمل، من غير محاباة ولا واسطة، بل استنادًا إلى الكفاءة والجدارة.
إن شباب الأردن لا يطلبون المستحيل، بل يطلبون فقط أن يُفسح لهم المجال، وأن تُزال من أمامهم العراقيل. وهم على استعداد لبذل أقصى الجهد، إذا ما شعروا أن وطنهم يراهم ويقدّرهم. وسمو الأمير الحسين هو الأمل المتقد في هذه المسيرة، لما يحمله من إيمان بالشباب، وما يسعى إليه من بناء أردن رقميّ، منتج، منفتح على العالم، وراسخ في قيمه وهويته.
ختامًا، فإنّ الأردن، هذا الوطن المجبول بالتضحيات والمروءات، لا يزال بحاجة إلى كل مخلصٍ فيه، من شيوخه الذين حملوا الأمانة وبنوا الأساسات، إلى شبابه الذين يحملون الحلم ويشقّون دروب المستقبل. هو وطن لا تُبنى نهضته إلا بتكامل الأجيال، وتبادل الرسالة، وتوارث القيم؛ وطن يحتاج إلى حكمة الشيوخ واندفاع الشباب، إلى تراكم التجربة وجرأة المبادرة، إلى من يضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار، ويجعل من انتمائه للوطن دينًا وسلوكًا وعقيدة حياة.
لقد أثبت الأردنيون على مرّ الزمن أن معدنهم لا يصدأ، وأنهم أهل عزيمة في السلم كما في الشدائد. واليوم، ورغم التحديات المتراكمة، من ضيق الموارد، وارتفاع نسب البطالة، وتقلّص الفرص، إلا أن في هذا الوطن من الإيمان والعقل والحكمة ما يجعله دائمًا أكبر من أزماته، وأقوى من كل ظرفٍ عابر.
ولن يكون المستقبل مشرقًا إلا إذا تشارك الجميع في صناعته، بالأمل، والعمل، والانتماء الحقيقي. فالأردن لا يُبنى بالحياد، بل بالمواقف؛ ولا يُحمى بالتمني، بل بالفعل. وليظل كما كان دومًا – حصنًا للعرب، ومهوىً لقلوب الأحرار – لا بد أن تبقى الراية في أيدٍ صادقة، وأن تستمر الرسالة جيلًا بعد جيل، تحملها القلوب قبل العقول، وتُروى بعرق الكادحين لا بماء الكلام.
فليحيا الأردن حرًّا أبيًّا، عزيزًا بقيادته، مكرّمًا بأهله، منيعًا بوحدته، خالدًا في رسالته، كما أراده الهاشميون وكما يريده الشرفاء من أبنائه.