facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الناسخ والمنسوخ: دروس في التكيّف الاداري و كمالية القرار


د. محمد حيدر محيلان
30-06-2025 11:00 AM

حين نتأمل مفهوم الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، فإننا لا نقف أمام مجرد مسألة فقهية أو آلية تشريعية زمنية، بل أمام قانون إلهي في إدارة التغيير، يرشدنا إلى كيفية التعامل مع الواقع المتحوّل، ويعلّمنا المرونة حين يتطلب الموقف مراجعة ما كُتب أو قُرر ، أو قُنِّن ،أو نطقنا به وتبين لنا ما هو اصوب وخيراً منه وارشد.

قال تعالى:
“ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير” (البقرة: 106)

فالنسخ هنا ليس نقضًا، بل نقلٌ او انتقال إلى ما هو أنفع، وتحولٌ مدروس من حكم إلى حكم حين تتغيّر الظروف، أو تنضج النفوس، أو تتقدم الرسالة ويظهر ويبين لنا الأصوب الأحق. وفي الإدارة الحديثة تعلمنا ان القرار ليس صنمًا، بل اجتهاد يبنى على قواعد علمية وبدائل رشيدة، واذا ظهرت فكرة او بديل انفع واكثر كفاءة نتحول اليه، وكذلك المدير أو القائد الذي يُصدر قرارًا، ثم يكتشف أن المعطيات تغيّرت، أو أن هناك ما هو أصلح، وأصوب وأدق تراجع الى الافضل، ولا يُلام حين يتراجع، بل يُحمد إن امتلك شجاعة التصحيح، وهذه من صفات القائد التحولي والتشاركي القدير.

يشير مبدأ الناسخ والمنسوخ في محكم التنزيل إلى فضيلة كبرى، لا تقيد نفسك في فكرة فقط لأنها كانت مناسبة في وقتٍ ما ، بل كن من أهل “نأتِ بخيرٍ منها” أي الذين يُراجعون قراراتهم وأقوالهم واحكامهم ليُحسنوا النتيجة ، وليصلوا الى القرار والرأي والحكم الامثل، الذي ينفع الامة ويهدي للتي هي اقوم.

كذلك في السياسة ، تعلمنا ان التصلّب في القرار ضعف لا قوة، فلا تكن صلبا فتكسر ولا لينا فتُهصَر ، فحين تصرّ جهة ما على قرارات أو قوانين لم تعد تخدم الواقع، فإنها تُخالف مبدأ النسخ الربّاني، الذي يجعل المصلحة المتجددة مقدمة على الإبقاء الشكلي ، وحين يصر اصحاب قرار ، على قانون او نظام ثبت عدم صلاحه او نفعه للامة فمن الجرأة المحمودة التراجع عنه بقوة واعتزاز وثقة، لان هذا التراجع هو عودة للحق واليقين ويحسب لفاعله وليس عليه.

الناسخ يُعلّمنا أن ما صدر عن الله عزّ وجل، حين تغيّر زمانه أو حال الناس ، او تبين ما هو انفع وايسر للامة ، نُسِخ بأحكم منه وأصلح وانفع وايسر ، فكيف بقراراتنا نحن؟ البعض يصر على الخطأ ويعلم انه خطأ، ويضر الامة، ولكنه لا يتراجع عنه ، وتأخذه العزة بالأثم ويتعصب لقراره وفكرته ورأيه ولو تبين له ما هو افضل منه وانفع واصوب . لعمري هذا التعنت والعناد يضر ولا ينفع ويؤخر ولا يُقدم.

في العمل الجماعي تعلمنا ان التشاركية في القرار ، والذي هو مبدأ اسلامي ، (وشاورهم في الامر) ، يصنع التوازن والاعتدال والنضج والرشد في القرار ، فالقرارات الجماعية التي تُبنى بمشورة، ثم تُراجَع بتأمل، تُنتج بعدا جديدًا من الفعل الإداري الحكيم ، وهذا من اساسيات الادارة التشاركية ، فنسخ اي قرار تبين عدم صلاحه او ما هو أصلح منه ، لا يعني فشل او منقصة في القرار وصاحبه، بل هو تطوير للقرار ، مع المحافظة على روح النظام، من خلال اعادة كتابته بلسان المرحلة والواقع الجديد الافضل.

ان الناسخ والمنسوخ الصادر عن خالق الكون ومدبره الحكيم العليم الرشيد ، لا يعلّمنا فقط قبول التغيير، بل احترامه كقيمة عليا ، ويدعونا إلى عدم التعصّب للرأي، بل السعي الدائم نحو ما هو أرجح، وأعدل، وأنفع للناس، وهو ايضا النزول لرأي الواحد او الأقلية اذا كان اصح وأصلح وانفع.

الناسخ والمنسوخ… يعلمنا دروس ربانية في فضيلة المراجعة والتراجع الحكيم بعزة وثقة، ومرونة القرار العام بلين وتؤده واعتزاز. فحين يقدّم القرآن مبدأ الناسخ والمنسوخ، فإنّه لا يُقدّم مجرد آلية فقهية لتبديل الأحكام، بل يُرسّخ مبدأ حضاريًّا بالغ العمق هو (الرجوع إلى الأصلح فضيلة، والاعتراف بالحاجة للتعديل قوة لا ضعف). فإذا كان ربّ العزة، وهو العليم بكل شيء، قد سنّ في شريعته أن يُنزل حكمًا ثم يُبدله بما هو أنفع للأمة وأقرب للخير، فكيف بالبشر وهم محدودو العلم، كثيرو التقدير الخاطئ؟

في الواقع السياسي والإداري والتربوي في عالمنا المعاصر المتغير ونحن في عصر الرقمنة وتسارع المعرفة وتبدلها، تظهر الحاجة الملحّة إلى استحضار هذا المبدأ الإلهي في تعديل القرار، وتصويبه ، وتفعيله على أرض الواقع، بعيدًا عن الجمود والتشبّث بالرأي.

لقد تعلمنا من سنة الرسول الحكيم عليه السلام الذي كان هو ايضا ينسخ كثيرا من اقواله واحكامه اذا رأى ما هو افضل منها وانفع أيضًا فقد قال ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) يدل هذا أن التشريع كان يُبدَّل لأن الإنسان يتطور والحياة تتبدل، فتتبدل معها التشريعات والفتاوى والاحكام، وأن الثبات الأعمى على حكم او قرار او موقف وهناك ما هو اجود واصلح وانفع منه، ليس من خصائص النضج والوعي والحوكمة الرشيدة، بل من أعراض الجمود المؤدي للموات . فلماذا نرى في بعض منابر الخطاب السياسي أو الإعلامي أو الديني تصلبًا في الرأي، ورفضًا للحوار، وتهكمًا على الرأي الآخر وتقليل من شأن العارفين؟

لو استوعبنا درس الناسخ والمنسوخ جيدًا، لأدركنا أن الاعتراف بخطأ الرأي ليس فضيحة، بل شجاعة راشدة تليق بمن يحرص على المصلحة العامة ونماء الامة.

الناسخ والمنسوخ في القرآن ليس مجرد تغيير في النص، بل ترقية في الوعي، وإعلان أن السير إلى الأمام يستلزم أحيانًا مراجعة ما وراءك ، وفي عالم الإدارة والسياسة والاجتماع، نحن بحاجة دائمة إلى هذا النسخ المحمود.

نسخ الجمود، ونسخ العناد، ونسخ التعنت في القرار الذي لم يعد صالحًا ، فلا حرَجَ أن تتراجع إذا بدا لك أن ما سيأتي خيرٌ مما مضى ، تلك ليست هزيمة… بل حكمة، وربما عبادة. ورقي حضاري وتمدن وصلاح اداري، أليس الله باحكم الحاكمين وأعلم العالمين؟ بلى،، فلماذا لم يأت بالناسخ والخير والافضل من البداية، ولا داعي لأن ينسخ اية ويأت بخير منها !! لقد جاء بذلك ليعلمنا درس في التراجع والتحول لما هو افضل ... فهل من مذكر؟؟





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :