وعيٌ مُعلّب: كيف يُعاد تشكيل إدراكنا في زمن الإعلام المُوجَّه؟
صالح الشرّاب العبادي
30-06-2025 11:36 AM
في عالم اليوم، لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل تحوّل إلى أداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الإدراك بما يخدم روايات سياسية وأيديولوجية مسبقة، لقد أصبح ما نراه ونسمعه على الشاشات أقل علاقة بما حدث فعلاً، وأكثر ارتباطًا بما يُراد لنا أن نعتقد أنه حدث.
لا يُطرح الحدث في الإعلام كما هو، بل يُقدَّم داخل سردية، مُغلّفة بلغة مشحونة، وصور منتقاة، وتكرار مدروس، يتم تأطير الوقائع ضمن قوالب جاهزة: هذا عدو، وهذا حليف، هذه مؤامرة، وتلك بطولة، لم يعد السؤال: ما الذي جرى؟ بل: كيف سنقدّم ما جرى؟.
بين التضليل والإرهاق المعرفي
التحوّل الأخطر في الإعلام ليس الكذب المباشر، بل التلاعب بالثقة العامة، عبر ضخّ روايات متضاربة، وإغراق المتابع بسيل من المعلومات المتناقضة، يُنهك العقل ويُصاب بالتشويش، يصل الجمهور تدريجيًا إلى قناعة قاتلة: لا أحد يقول الحقيقة، فلا جدوى من المتابعة.
تصفير الوعي..
أخطر أدوات الإعلام اليوم ليست الأكاذيب الفجّة، بل الإغراق في التفاصيل المتناقضة حتى يفقد المتابع القدرة على التمييز، تُفتح أمامه عشرات الشاشات، وعشرات الزوايا، فينهار أمام السؤال البسيط: من أُصدّق؟.
لكن هنا تكمن الخدعة: الهدف ليس أن تصدّق أحدهم، بل أن تتوقف عن التصديق تمامًا، أن تصل إلى نقطة اللامبالاة، وأن تقول: كلهم كاذبون.
وهنا، يكون الوعي قد تم تصفيره.
وهنا تتحقق الغاية الحقيقية: لا أن تصدق رواية بعينها، بل أن تفقد ثقتك بأي رواية على الإطلاق، أن تنسحب إلى الحياد، حتى في قضايا لا تحتمل الحياد، أو أن تكتفي بالتفاعل العاطفي العابر، بدل الفهم النقدي المتأني.
من المعلومة إلى التوجيه
تحوّل الإعلام من ناقل للمعلومة إلى مهندس للرأي العام لا يمكن تجاهله. كثير من القنوات والمواقع لم تعد تبحث عن الحقيقة، بل عن تثبيت الرواية ، أي صناعة نسخة مُفَضَّلة من الواقع تتماشى مع مصالح مموّليها أو أجندات داعميها.
في هذا السياق، يُعاد إنتاج المفاهيم:
القمع يُصبح، فرضًا للنظام، الاحتلال يُقدَّم كـ تدخل مشروع ، والمقاومة تُوصَف بأنها تخريب أو إرهاب ، حسب الجهة الناقلة.
وتساؤلات تطال قشرة المخ :
هل الحرب هي حرب؟ أم عملية؟
هل القمع هو قمع؟ أم حفظ للأمن ؟
وهل التحالف هو تحالف ؟ ام انظمام قسري ؟
كل شيء بات خاضعًا للتأويل المسبق، ولسردية جاهزة نُساق إليها كجمهور لا كعقول مستقلة.
صناعة الخوف بدل صناعة الوعي
الهدف لم يعد توسيع مدارك الفرد، بل التحكم بمشاعره:
أن يخاف بدل أن يُحلّل ..
أن يكره بدل أن يُطالب ..
وأن يُصفق بدل أن يُفكّر ..
هذه ليست مبالغة، بل واقع تديره غرف تحرير متصلة بمنظومات نفوذ عالميّة، حيث لم تعد السيادة فقط لمن يملك الأرض، بل لمن يُعرّف الواقع على الأرض.
الكاميرا أخطر من البندقية
في زمن تتبدّل فيه الحقائق أمام العدسات، تصبح معركة الوعي هي المعركة المركزية. لم تعد السيطرة تتحقق عبر السلاح فقط، بل عبر الكلمة والصورة والمصطلح.
لهذا، فإن أكثر ما يحتاجه الإنسان اليوم ليس المصدر الموثوق، بل العقل اليقظ، أن يسأل لا ما الذي قيل فقط، بل: من قاله؟ ولماذا؟ وما الذي تم حذفه عمداً؟
ففي عالم يُدار بالأكاذيب الناعمة، يصبح الشك المنهجي فضيلة، والوعي النقدي آخر حصون الحقيقة.
في النهاية، لم تعد المعركة على الجغرافيا وحدها.. بل على الوعي.
ومن يربح معركة الوعي، يربح كل شيء.