facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




نحو هوية بصرية متجددة للعاصمة عمان


د. فؤاد الخصاونة
30-06-2025 03:49 PM

تُعدّ العاصمة عمّان من العواصم العربية القليلة التي تتمتع بخصوصية معمارية قائمة على استخدام الحجر في واجهات البناء، مما يمنحها طابعًا عمرانيًا مميزًا يجمع بين الأصالة، والبساطة الجمالية، والاستدامة، إلا أنّ هذا التراث المعماري لم يُقابل، في كثير من الأحيان، بتخطيط بصري أو فني يعكس جماله أو يعزز من حضوره في الفضاء العام، ومع تزايد الاهتمام بالهوية البصرية للمدن، تظهر الحاجة الملحّة إلى إدخال عناصر فنية دائمة تتناغم مع النسيج الحجري للمدينة، وفي مقدمتها المنحوتات والجداريات الحجرية.

تتمتع المنحوتات والجداريات الحجرية، على وجه الخصوص، بخاصية جمالية فريدة تجعلها تتناغم بسلاسة مع الطابع الحجري الأبيض الذي يميز مباني العاصمة والمدن الأردنية الأخرى، فهي لا تضيف بعدًا فنيًا فحسب، بل تؤدي أيضًا دورًا توثيقيًا وثقافيًا حين تُنفّذ بتقنيات عالية تحترم البيئة البصرية المحيطة، وبما أنّ عمّان تشهد توسعًا عمرانيًا متسارعًا، فإن غياب العناصر الفنية النوعية في الميادين العامة والساحات يطرح تساؤلات جوهرية حول دور الفن في تشكيل الذائقة الجمعية والحفاظ على الهوية البصرية للمدينة.

يُعدّ الحجر والرخام البلدي أحد أبرز الموارد الطبيعية الجمالية التي تمتلكها المملكة، ويُعتقد أنه لم يُستثمر فنيًا بالشكل الكافي، لا سيما المستخرج من مناطق مثل عجلون ومعان وغيرها، فهذا الحجر يتميز بمتانته وتنوع ألوانه وعروقه، ما يجعله منسجمًا تمامًا مع البيئة الأردنية، واستخدامه في الأعمال النحتية – سواء في المنحوتات، أو الميادين، أو الجداريات النافرة والغائرة – لا يُسهم فقط في خلق ارتباط عضوي بين الفن والعمارة، بل يدعم كذلك استدامة هذه الأعمال نظرًا لقدرة هذه الخامة على مقاومة عوامل التعرية وتغير المناخ، فتبقى الأعمال خالدة، توثق المدينة كما وثّقت المنحوتاتُ حضاراتٍ كثيرةً سبقتها.

إنّ حضور الفن في الفضاء العام لا يغيّر من ملامح المدينة فحسب، بل يعيد تشكيل المتلقي ذاته، فعندما تزيّن الجداريات والمنحوتات الحجرية الميادين والساحات، لا تؤدي دورًا زخرفيًا عابرًا، بل تتحول إلى أدوات تربوية وجمالية تُحدث أثرًا تراكميًا في الوعي الجمعي، فالمتلقي الذي يمرّ يوميًا أمام منحوتة متقنة أو جدارية رخامية ذات بعد رمزي وفكري، يبدأ في التفاعل الصامت معها، ويدخل تدريجيًا في علاقة تأمل وتأويل، تتجاوز الشكل إلى المعنى، وهكذا تُصاغ الذائقة البصرية على مهل، وتتسع آفاق التلقي لتطال الفكر والثقافة، وليس البصر وحده.

وتتضح أهمية هذا المشهد أكثر حين ننظر إليه من زاوية التربية الجمالية، إذ إنّ طفلًا ينشأ في مدينة تحتضن الفن في شوارعها، وتُكرّر حضور النحت والجداريات في ساحاتها، سيجد نفسه – من حيث لا يدري – متورطًا في علاقة يومية مع الجمال، وتصبح عينه مدرّبة على التوازن، والفراغ، والرمز، والضوء، والظل، مثل هذه النشأة تُفضي إلى جيل أكثر قدرة على التذوق، وأقل ميلاً إلى القبح، وأكثر وعيًا بالبعد الإنساني للفن، وهنا تتجاوز المنحوتة وظيفتها الجمالية إلى وظيفة تعليمية وثقافية، تُربّي الخيال، وتُهذّب الحس، وتُنمي الفهم، من هذا المنظور، لا بد من اعتبار حضور النحت في الميادين سياسة ثقافية مدروسة، لا ترفًا بصريًا، إذ تهدف إلى بناء مجتمع واعٍ يحمل ذاكرة جمالية.

وفي مقابل حالة التردد أو التشتت في تفعيل الفنون النحتية في الفضاءات العامة، يمكن النظر إلى تجارب حديثة في عواصم مجاورة، وفي مقدمتها مدينة الرياض، التي اعتمدت خلال السنوات الأخيرة رؤية واضحة في تجميل الميادين والساحات العامة، من خلال إدماج أعمال نحتية رخامية ضمن مخططها الحضري، وقد جاء هذا التوجه منسجمًا مع استراتيجية ثقافية وطنية شاملة، تهدف إلى رفع الذائقة العامة، واستثمار الموارد الطبيعية المحلية – كالرخام والحجر – وتحويلها إلى أعمال فنية مستدامة تشكّل بُعدًا ثقافيًا بصريًا دائمًا في المدينة.

لقد أدركت الرياض، ومن ورائها الجهات الحكومية المعنية، أن الفن العام ليس ترفًا، بل ضرورة حضارية تخلق تفاعلًا حيًا بين الإنسان والبيئة، وتُعزز من علاقة المواطن بالمكان، فالأعمال النحتية المنتشرة في مفاصل المدينة لم تأتِ ارتجالًا، بل ضمن خطة مدروسة طويلة الأمد، تندرج ضمن برامج التحول الثقافي والفني، وتشرف عليها جهات رسمية مختصة بالتنمية الحضرية والثقافية. وهكذا، أصبحت الميادين في الرياض فضاءات عرض مفتوحة، تُرسّخ ذاكرة المدينة وتحفظ سرديتها الجمالية، وتمنح الفنانين المحليين منصّة للتعبير ضمن إطار مؤسسي مستدام.

إن هذه التجربة تُبين بوضوح أن وجود رؤية حكومية ثقافية متكاملة، مقرونة بدعم مؤسسي وخطة استراتيجية بعيدة المدى، هو ما يضمن نجاح إدماج الفنون البصرية في النسيج العمراني، لا كمشهد مؤقت، بل كهوية متجددة ورافعة حضارية للمكان وساكنيه.

وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحّة إلى أن تعيد أمانة عمّان الكبرى دراسة دورها المحوري في رسم السياسات الحضرية التي تُعنى بتجميل الميادين العامة والجدران، عبر توظيف المنحوتات الحجرية والجداريات كجزء لا يتجزأ من البنية الجمالية والثقافية للمدينة، إن غياب استراتيجية مؤسسية واضحة في هذا المجال يجعل الأعمال الفنية عرضة للاجتهادات الفردية أو التنفيذ غير المنسجم مع هوية المدينة، مما يُفقدها قيمتها الجمالية والتوثيقية على حد سواء، كما شاهدنا في بعض الجداريات العشوائية ذات الخامات المؤقتة التي تفتقر إلى عناصر الاستدامة.

إن تبنّي الأمانة لرؤية فنية طويلة الأمد يجب أن ينبثق من وعي حقيقي بدور الفن في تشكيل الذائقة الجمعية، ورفع الوعي البصري والثقافي لدى المواطنين، وتحويل المدينة إلى كتاب مفتوح من الرموز، والتواريخ، والتجليات الجمالية، ولتحقيق ذلك، لا بد من إطلاق برامج وخطط تنفيذية مستدامة، تضمن أن تكون الجداريات الحجرية والمنحوتات جزءًا عضويًا من النسيج العمراني لا مجرد إضافات سطحية، كما ينبغي لهذه السياسات أن تراعي استخدام الموارد الطبيعية المحلية – وعلى رأسها الحجر والرخام البلدي – بوصفها خامات تعكس خصوصية المكان، وتُكرّس فكرة الانتماء الجمالي والهوية البصرية الأصيلة.

وفي هذا الإطار، لا تقع المسؤولية على عاتق أمانة عمّان وحدها، بل تتطلب المرحلة تضافر الجهود المؤسسية والمجتمعية، بدءًا من مؤسسات المجتمع المدني، ومرورًا بالجهات المتخصصة في السياحة والثقافة، ووصولًا إلى قطاع الفنادق والمرافق السياحية، التي تمتلك الموارد والمساحات لتبنّي هذا التوجّه ودعمه، ولو في حدود منشآتها ومرافقها، إذ إنّ احتضان هذه الجهات للأعمال النحتية، وتوفير الحاضنات المناسبة لها، ودعم الفنانين في تنفيذ مشاريع دائمة، يشكل رافعة ثقافية وتنموية حقيقية.

إن تأسيس سياسة فنية حضرية شاملة هو مسؤولية جماعية تجاه المدينة، ومواردها الطبيعية، وفنانيها وموروثها الجمالي، بل يشكل كذلك استثمارًا بعيد المدى في الثقافة والوعي والهوية، ما يجعل من عمّان مدينة تتحدث بلغة الفن، وتبني أجيالًا تتذوق الجمال وتشارك في صناعته.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :