أداء المجالس البلدية والمحافظات: أرقام صادمة وانتهاك لحقوق المواطن
فارس متروك شديفات
30-06-2025 11:56 PM
تكشف دراسة "راصد الأردن" الأخيرة عن واقع مقلق تعيشه المجالس البلدية ومجالس المحافظات في الأردن، حيث تتوالى المؤشرات التي تعكس تدنيًا في الأداء، واستفحالًا في مظاهر الفساد، وتراجعًا كارثيًّا في ثقة المواطنين بالمؤسسات المحلية المنتخبة.
الأرقام لا تحتمل التأويل، بل تقف كجرس إنذار يستدعي مراجعة جادّة وشاملة لمنظومة الإدارة المحلية – ليس فقط لضعف أدائها، بل لانعكاساتها المباشرة والمُدمّرة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن الأردني.
فبحسب الدراسة، يرى 87٪ من الأردنيين أن الواسطة تُدير عمل البلديات وتُضعف كفاءتها، وهذه النسبة المرتفعة ليست مجرد رقم؛ إنها شهادة على ترسّخ ثقافة الاستثناء وتغليب المصالح الضيقة على مبادئ العدالة والكفاءة، مما يحوّل البلديات من مؤسسات عامة تخدم الجميع إلى أدوات للنفوذ الشخصي.
والأخطر أن هذه القناعة تنعكس عمليًا على مستوى الخدمات المقدّمة، وتهزّ ثقة المواطن في جدوى العملية الانتخابية برمّتها.
وعلى صعيد الخدمات، تؤكد الأرقام الكارثية حجم المأزق: 59٪ من المواطنين يرون المجالس البلدية والمحافظات "عاجزة أو غير فعّالة" في تقديم الخدمات، بينما يعتقد 56٪ أن خدمات البنية التحتية "ضعيفة أو غائبة" تمامًا، وهذا التدني المريع في الخدمات وانهيار البنية التحتية ليس مجرد إزعاج يومي؛ إنه انتهاك صارخ للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية التي يكفلها الدستور.
فحق المواطن في بيئة نظيفة وآمنة، وفي طرق سالكة تضمن حركته وأمانه، وفي مرافق عامة لائقة تشكل أساسًا لحياة كريمة – يتحول إلى سراب في ظل هذا الأداء.
عندما تتحول رحلة المواطن اليومية إلى معاناة مع الحفر المائية والأرصفة المتكسرة ونفايات متراكمة، وعندما يعجز عن تأمين أبسط متطلبات العيش الكريم في محيطه السكني، فإننا لا نواجه فقط فشلاً إدارياً، بل نكشف عن شرخ عميق في العقد الاجتماعي الذي يفترض أن يحمي كرامته ويوفر له مقوّمات الحياة الأساسية كحقٍّ وليس كمنّة.
إن تردي الخدمات هو هدر مباشر للطاقات الاقتصادية للأفراد والمجتمعات المحلية، يعيق التنمية ويُثقل كاهل المواطن بتكاليف إضافية ويحدّ من فرصه في العمل والإنتاج.
أما في مجال الحوكمة والقيادة، فالصورة أكثر قتامة: 83٪ من المواطنين يرون أن المجالس المنتخبة لا تسيطر على الجهاز التنفيذي، و81٪ يؤكدون أن رؤساء المجالس يتفرّدون بالقرار ويُقصون الأعضاء، ما يعني أن مجالسنا تُعاني من خلل مزدوج: ضعف في الخدمات، وضعف في التشاركية والحوكمة الرشيدة، وهو ما يفرغ الانتخابات المحلية من جوهرها الديمقراطي.
وفي قضية الفساد، تصل الأرقام إلى ذروة الصدمة: 80٪ من الأردنيين رصدوا فسادًا صغيرًا داخل البلديات، و74٪ يشيرون إلى فساد في رخص الأبنية والتخطيط، بينما يرى 87٪ أن توزيع المشاريع يتم بالمحسوبية والنفوذ فقط.
وتبلغ القناعة الأقسى عند 89٪: لا يمكن الحصول على خدمات البلدية دون واسطة أو عناء مستمر. والأخطر أن ثقافة الواسطة والمحسوبية هذه ليست مجرد تشويه لسمعة المؤسسات؛ إنها آلة طحنٍ لحقوق المواطنين وتمييزٌ صارخٌ على أساس النفوذ، فهي تحرم شرائح واسعة – خاصة الأكثر احتياجًا والأقل حيلة – من الوصول المتكافئ إلى الخدمات والموارد العامة التي تُموَّل من أموالهم عبر الضرائب.
هذا ليس إهدارًا للمال العام فحسب؛ إنه تدمير لمبدأ تكافؤ الفرص، وإجهاض للحق في التنمية المحلية العادلة، وتحويل الخدمات البلدية – من رخص البناء إلى مشاريع البنية التحتية – من أدوات للنهوض بالمناطق إلى وسيلة لترسيخ التفاوتات الطبقية.
استمرار آفة المحسوبية؛ يعني أن طريق المواطن نحو حقه في سكن لائق، أو بيئة عمل مناسبة، أو مشاركة عادلة بثمار التنمية، سيظل محفوفًا بحجارة المحسوبية، مما يزيد الإحباط المجتمعي ويقوض العدالة الاجتماعية المنشودة.
ولعلّ تشخيص الأسباب يأتي مطابقًا لواقع الأزمة: 85٪ من المشاركين يرون أن "ضعف مؤهلات الأعضاء المنتخبين" هو السبب الرئيس لتردّي الأداء، وهذا يعكس قصورًا خطيرًا في آليات الترشيح والانتخاب، وضعف المؤهلات والثقافة السياسية، وغياب البرامج الحزبية الجادة.
إن هذه المعطيات الصادمة ليست أرقامًا جامدة؛ إنها صرخة تستدعي وقفة جادّة من كل الأطراف المعنية بالإصلاح الشامل والتنمية الوطنية، فثقة المواطن بالمؤسسات المنتخبة تتآكل بسرعة، مهدّدةً جوهر الديمقراطية المحلية؛ فلا معنى لصندوق الاقتراع إذا كانت المخرجات ضعيفة والسلطة الفعلية مُحتكرة.
ولمواجهة هذا التحدي الوطني، لا بد من:
1.مراجعة شاملة لقوانين الإدارة المحلية: لضمان استقلالية المجالس، وتعزيز دورها الرقابي، وكبح تغوّل الرؤساء والجهاز التنفيذي. فلا ديمقراطية محلية دون مساءلة حقيقية.
2.تمكين المواطنين من الرقابة: عبر توسيع أدوات المساءلة المجتمعية، فالمجتمعات المحلية أدرى بأولوياتها وهي الأقدر على تقييم فاعلية مجالسها.
3.اجتثاث ثقافة الواسطة: ببناء أنظمة مؤتمتة، وأنظمة توظيف وتقديم خدمات قائمة على العدالة والجدارة، وليس على النفوذ والعلاقات.
4.تعزيز الثقافة السياسية: وتمكين الأحزاب من تقديم مرشّحين أكفاء ذوي رؤية، لأن الإصلاح يبدأ من المجتمع قبل المؤسسات.
الخلاصة المؤلمة هي أن المجالس المحليّة، التي يفترض أن تكون حصونًا لخدمة المواطن وضامنةً لحقوقه الأساسية، تحوّلت – في نظر الغالبية – إلى بؤر للتمييز وهدر الكرامة، والإصلاح لم يعد خيارًا؛ إنه واجبٌ للحفاظ على جوهر الدولة وعدالتها.