من الهولوكوست إلى غزة: لماذا أصبح السلام مصلحة إسرائيلية عليا؟
م. وائل سامي السماعين
08-07-2025 01:26 AM
لطالما مثّلت الحروب في الشرق الأوسط وسيلة لفرض السيطرة وتثبيت المعادلات السياسية، لكن حرب غزة الأخيرة كشفت عن حقيقة لا يمكن تجاهلها بعد الآن: استمرار الصراع، بكل أشكاله، لم يعد يخدم أحدًا، بل يُسهم في تعميق الكراهية، وتوسيع دائرة العنف، وتآكل فرص الأمن الحقيقي، حتى داخل إسرائيل نفسها.
لقد أثبتت الحرب أن الأمن لا يتحقق بالقوة وحدها، وأن التفوق العسكري مهما بلغ لا يمكنه أن يصنع شرعية، ولا أن يُنتج استقرارًا دائمًا. فالصواريخ والطائرات والدبابات، التي اعتُقد يومًا أنها أدوات الردع والهيبة، أصبحت محاطة بسياج من الشكوك بشأن فاعليتها أمام مقاومة لا تُهزم بالإبادة، بل تُولد من رحم الظلم والتهميش.
وربما لا تجد البشرية مثالًا أكثر إيلامًا على الاضطهاد الجماعي من ما تعرض له الشعب اليهودي في أوروبا في القرن الماضي، حيث راح قرابة ستة ملايين يهودي ضحية الهولوكوست في واحدة من أبشع الجرائم التي شهدها التاريخ الحديث. وبسبب هذا الحدث الكارثي، تأسست دولة إسرائيل على وعدٍ أخلاقي عالمي بحماية هذا الشعب، وتأمين مستقبل آمن له.
لكن، هل من المنطقي أن تُبنى هذه الحماية على نفي حقوق شعبٍ آخر؟
هل تُصحح مأساة تاريخية بخلق مأساة جديدة؟
وهل يمكن لمن مرّ بالظلم أن يجد أمنه في ممارسته على غيره؟
الحقيقة أن الحفاظ على حياة الشعب اليهودي لا يكون عبر الاستمرار في الحرب والاحتلال، بل عبر السلام العادل، الذي يُنهي الصراع ويوفر البيئة الحاضنة للتعايش الإقليمي. إن السلطة الفلسطينية، والأردن، ولبنان، ومصر، والسعودية، ودول الخليج، جميعها مدت يدها للسلام، وأبدت استعدادًا لتسوية عادلة تحفظ حقوق الجميع، بما فيهم إسرائيل.
وما تزال مبادرة السلام العربية المطروحة منذ عام 2002 على الطاولة، وهي تشكّل فرصة تاريخية لتأسيس شرق أوسط جديد، قائم على التعاون لا المواجهة. كما أن اتفاقات التطبيع الأخيرة، رغم الجدل حول توقيتها وسياقها، أظهرت بوضوح وجود نية عربية صادقة للعيش المشترك وإنهاء الصراعات.
أما الاستمرار في الخيار العسكري، فلم ينتج سوى تآكل في صورة إسرائيل عالميًا، وتزايد العزلة السياسية، وارتفاع الأصوات في الشارع الغربي التي بدأت تُحمّل إسرائيل مسؤولية أخلاقية وإنسانية لا يمكن تبريرها أمام ما يجري من دمار وقتل.
وبينما يتغير المزاج الدولي، وتشتد الضغوط على الاحتلال، فإن إسرائيل باتت أمام مفترق طرق حقيقي: إما أن تختار السلام، وتنقذ نفسها والمنطقة من دوامة دموية لا تنتهي، أو أن تستمر في منطق القوة، وهو منطق يثبت فشله مرة بعد أخرى.
إن السلام لم يعد مصلحة عربية فقط، بل بات مصلحة إسرائيلية عليا. ليس من منطلق العاطفة أو التنازلات، بل من منطلق الاستراتيجية، والاستقرار، والحفاظ على الوجود ذاته. لقد آن الأوان لصناع القرار في تل أبيب أن يُدركوا أن اليد الممدودة للسلام لن تبقى ممدودة إلى الأبد، وأن الفرصة لا تزال ممكنة، لكنها تتقلص مع كل طلقة، وكل جدار، وكل دمعة.
waelsamain@gmail.com