تركيا في قبضة البلديات: محاربة فساد أم هندسة سياسية ؟
د. نعيم الملكاوي
09-07-2025 10:17 AM
تتحرّك تركيا اليوم فوق رمالٍ متحرّكةٍ من المواجهات السياسية ، حيث تتقاطع البلديات الكبرى مع بوصلة السلطة المركزية ، في مشهدٍ يكاد يلخّص معركة إعادة تشكيل الداخل التركي على أعتاب استحقاقات انتخابية مصيرية .
من إسطنبول إلى إزمير وأضنة ودياربكر( ذات الأغلبية الكردية ) ، يتكرّر العنوان ذاته : اعتقالات جماعية ، عزلٌ لرؤساء بلديات منتخبين ، وتعيين أوصياء حكوميين ، تحت شعار "مكافحة الفساد" و"تجفيف منابع الإرهاب" .
لكن خلف هذا الشعار ، يرى خصوم الرئيس أردوغان أن ما يحدث ليس سوى تصفية حسابات سياسية ، وحملة تطهير تهدف إلى تحجيم نفوذ المعارضة البلدية وإزاحة خصوم محتملين ، قبل أن تُطرق أبواب الرئاسة في أي استحقاق مبكر أو لاحق .
إسطنبول … المعركة تبدأ من هنا !!!
كانت إسطنبول كالعادة ، مركز العاصفة والحصن التاريخي . ففي مارس 2025 ، أُوقف أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية المدينة الكبرى وأبرز وجوه المعارضة ، في خطوة هزّت الداخل التركي وأشعلت الشارع . إمام أوغلو الذي يراه كثيرون " الرئيس البديل " ، اتُّهم بالفساد وسوء استغلال المنصب ، وتورّط بتمويل تنظيمات إرهابية .
تقول الحكومة إن التهم مثبتة بالأدلة ، فيما تصف المعارضة الملف بأنه "مفبرك" ، هدفه إزاحة أخطر منافس محتمل لأردوغان قبل أن تتحوّل بلديات إسطنبول إلى رافعة انتخابية معارضة .
الضربة في إسطنبول لم تقف عند إمام أوغلو وحده ، بل تبعتها موجة توقيفات طالت عشرات المدراء والمسؤولين التنفيذيين في الدوائر البلدية ، وتم تعليق مهام رؤساء أحياء كبرى مثل شيشلي وبيليك دوزو .
إزمير وأضنة… رقعة الاشتباك تتسع !!!
بعد إسطنبول ، جاء الدور على معقل آخر للمعارضة : إزمير ، في يوليو 2025 ، داهمت الشرطة مقار البلدية واعتقلت أكثر من 150 مسؤولاً وموظفاً ، بدعاوى التلاعب في المناقصات والارتباط بتمويل الإرهاب . فالمشهد يتكرّر في أضنة ودياربكر حيث تم توقيف رؤساء بلديات أحياء رئيسية وبعض المدن الأخرى على قائمة الاشتباك .
ويرى معارضون أن السلطة تستخدم التهم كذريعة لإفراغ البلديات من محتواها المنتخب ، عبر آلية «تعيين الأوصياء» التي أُقرّت بعد محاولة الانقلاب عام 2016 ، لتُصبح أداة جاهزة لتجاوز صناديق الاقتراع .
الرواية الرسمية : تطهير إداري لحماية الدولة
على الضفة المقابلة ، تتمسّك الحكومة برواية صارمة : "لا أحد فوق القانون" ، وأن القضاء يتحرّك باستقلالية لمحاربة شبكات الفساد التي تحوّلت بعض البلديات إلى حواضن لها ، إضافة إلى تجفيف أي صلات محتملة مع تنظيمات تُصنّف إرهابية كحزب العمال الكردستاني PKK .
تقول وزارة الداخلية إن استعادة نزاهة البلديات ستحفظ أموال الدولة وتحمي الاستقرار والامن الداخلي ، رافضةً الاتهامات بتسييس القضاء أو تحويله إلى سوط بيد الحزب الحاكم .
ردود الفعل الدولية : تساؤلات حول الديمقراطية ؟
لم يمرّ هذا المشهد دون أصداء خارجية . الاتحاد الأوروبي ، عبر المفوضية المعنية بالتوسّع ، لمّح إلى أن عزل رؤساء بلديات منتخبين يضرب جوهر الديمقراطية المحلية في تركيا ، ويقوّض التزامات أنقرة بمعايير كوبنهاغن والتي تتلخص بـ ( انها بطاقة العضوية الأوروبية المشروطة بثلاثة أركان : ديمقراطية حقيقية، اقتصاد سوق فعّال ، واحترام القانون الأوروبي ) والواجب على انقرة الالتزام بها ما دامت ترغب بالانضمام الى المنظومة الأوروبية .
الولايات المتحدة بدورها دعت إلى احترام استقلال القضاء ، بينما وصفت هيومن رايتس ووتش الخطوة بأنها "تطهير سياسي مقنّع" لا علاقة له فعلياً بمكافحة الإرهاب .
بين الرابح والخاسر : المواطن والاقتصاد يدفع الثمن ...
ما يجري على مستوى البلديات لا ينفصل عن نبض الاقتصاد . الليرة التركية تراجعت فور تصاعد التوقيفات ، إذ شهدت خلال أسبوع اعتقال إمام أوغلو وحده انخفاضاً بأكثر من 2% أمام الدولار ، وسط تحذيرات من مؤسسات تصنيف ائتماني بأن استمرار "الهندسة السياسية" عبر عزل خصوم منتخبين سيزيد من كلفة الاقتراض على البلديات ، ويضعف ثقة المستثمرين وهذا يحصد نتائجه المواطن التركي بارتفاع الأسعار بشكل مستمر .
يقول الخبير إرتان دميريل لوكالة بلومبيرغ: "عندما يصبح خصمك البلدي عرضة للاعتقال بتهم قابلة للتوظيف السياسي ، فإن رسالتك إلى المستثمرين الدوليين تقول ، أنك لا تستطيع ضمان استقرار أي هيكل إداري لديك " .
ما وراء الستار : معركة مبكرة على الرئاسة ...
في جوهر الصورة ، تدور معركة خفية لكنها مكشوفة . فمنذ أن تحوّلت إسطنبول إلى شوكة في خاصرة السلطة عام 2019 ، باتت معركة البلديات عنواناً مبكراً لأي سباق رئاسي قادم .
شخصيات مثل إمام أوغلو لا تشكل تهديداً محلياً فقط ، بل تهديداً استراتيجياً لتركيبة النظام السياسي نفسه . من هنا يرى مراقبون أن اتهامات ( الارتباط بـPKK ) ليست إلا أداة لفك التحالفات الهشّة بين حزب الشعب الجمهوري CHP والقوى الكردية ، وهي التحالفات التي منحت المعارضة مفاتيح كبرى المدن التركية .
تبدو تركيا اليوم وكأنها تجرّب نمطًا من " إفراغ الصناديق عبر القضاء " ، وهو ما يهدّد فكرة الديمقراطية المحلية التي تعزّزت منذ التسعينيات . تقول المعارضة : ( قد نفوز في الصناديق، لكننا نخسر البلديات في المكاتب القضائية ) .
وفي المقابل ، تصرّ الحكومة على أن التطهير ضرورة وطنية لا بدّ منها لضمان وحدة الدولة . أما المواطن التركي ، فهو العالق بين مطرقة تضييق الحريات وسندان الأزمات الاقتصادية .
ويبقى السؤال مفتوحاً : هل ينجح حزب العدالة والتنمية في إخماد خصومه عبر البلديات ، أم يخلق جبهة أوسع من الاستياء تعيد قلب الطاولة عليه في أول اختبار انتخابي مقبل ؟
* كاتب وباحث سياسي