تحول تشريعيٌّ أم تصويبٌ حقوقيٌّ في قانونِ التنفيذِ الأردنيّ
الدكتور مراد منصور القداح
09-07-2025 03:11 PM
*"قراءةٌ تحليليّةٌ في سِريانِ نَصِّ المادّةِ (22/و/1) بشأنِ منعِ حبسِ المدينِ عن الالتزاماتِ التعاقديّة في ضوءِ التزاماتِ الأردنِّ الدوليّة وتحدّياتِ التطبيقِ العمليّ".
تمهيد:
مع دخول المادة (22/و/1) من قانون التنفيذ الأردني حيز النفاذ في 25 / 6 / 2025، والتي نصت في الفقرتين (1 + 2) على أنه:
"1. لا يجوز حبس المدين إذا عجز عن الوفاء بالتزام تعاقدي، باستثناء عقود إيجار العقار وعقود العمل.
2. تسري أحكام البند (1) من هذه الفقرة بعد مرور ثلاث سنوات على تاريخ نفاذ أحكام هذا القانون."
إن سريان التعديل الذي طال نص المادة (22) من قانون التنفيذ وضع المنظومةُ القانونيةُ والقضائية أمام نقطةِ تحوّلٍ بارزةٍ في مجال التنفيذ الجبري، فقد نصت المادة صراحةً على منع حبس المدين في الالتزامات التعاقدية، مع استثناء عقود إيجار العقار وعقود العمل، هذه النقلة خلقت خلافًا حول آلية ضبط الموازين في العلاقة بين الدائن والمدين.
وقد بدأ سريان النص في 25 / 6 / 2025، أي بعد مرور ثلاث سنوات على نفاذ قانون التنفيذ المعدّل رقم (9) لسنة 2022، وقد أوجد هذا السريان تحولًا فعليًّا في التعامل مع المدينين الذين ترتبت عليهم التزامات مالية ناشئة عن عقود مدنية أو تجارية، فقبل هذا التاريخ، كان الدائن يتمتع بحق طلب حبس المدين كوسيلة ضغط لتنفيذ الحكم، أما بعد السريان، فإن هذا الحق أصبح مقيدًا في الالتزامات التعاقدية.
-الانسجام مع التوجّه الدولي لحماية المدين:
جاء النص منسجمًا مع ما ورد في المادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تنص على: "لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي.".
ويُعد التزام الأردن بهذا العهد، المصادق عليه والمنشور في الجريدة الرسمية (بعيدا عن الجدل حول مدى دستورية المصادقة) ملزمًا وفقًا لأحكام الدستور، وبالتالي، فإن النص الجديد لا يمثل خروجًا عن السياسة العامة، بل هو تجسيد لإرادة الدولة في مواءمة تشريعاتها مع التزاماتها الدولية، وترسيخ لمبدأ إنساني يقوم على أن الحرية الشخصية لا يجوز تقييدها بسبب عجز مالي خارج عن الإرادة.
-مدى التوازن بين حقوق الدائن وضمانات المدين:
مع أن النص الجديد يُعدّ من زاوية حقوق الإنسان إنجازًا تشريعيًّا، إلا أنه أثار تساؤلاتٍ حول مدى تأثيره على مركز الدائن، وخصوصًا في ظل عدم فعالية بعض الوسائل البديلة.
فقد أصبح الدائن ملزمًا باللجوء إلى إجراءات مالية قد تستغرق وقتًا أو تُفقد فعاليتها في حال إخفاء المدين لأمواله أو امتناعه عن الوفاء.
وقد حرص المشرّع على إبقاء الحبس في حالتين اعتبرهما استثنائيتين، وهما:
1. عقود إيجار العقار.
2. عقود العمل.
وهي استثناءاتٌ تثير الجدل، كما سنبيّن لاحقًا.
- الإشكاليات القانونية والتطبيقية بعد السريان:
1. من يُثبت العجز، وما آلية ذلك؟
العبارة في متن المادة: "إذا عجز عن الوفاء.."، تُشير إلى أن الحبس لا يُمنع في المطلق، بل يُمنع إذا ثبت العجز، لكن من يُثبت هذا العجز، وما آلية ذلك في ظل غياب النص الصريح في سياق المادة؟
وفقًا للقواعد العامة، يقع عبء إثبات العجز على من يدعيه: (المدين)، ويجب عليه تقديم أدلة مالية واضحة تثبت ذلك، مثل: كشوفات حسابات بنكية، شهادات الإعسار، بيانات ضريبية ودخلية، وثائق طبية في حال المرض أو الإعاقة.
2. مبدأ الكفاية الذاتية للأوراق التجارية:
أثارت دوائر التنفيذ مؤخرًا جدلًا لاعتبارها الكمبيالات والشيكات تُعد التزامات تعاقدية يمنع الحبس بسببها، ونذهب إلى أن هذا التوجه يخلق إرباكًا فقهيًا وقضائيًا؛ لأن الأوراق التجارية تتمتع بخصوصية قانونية وتشريعية تقوم على مبدأ الكفاية الذاتية، أي أنها تُنفّذ بذاتها دون الحاجة لإثبات العلاقة الأصلية، وقد أكّدت محكمة التمييز الأردنية على ذلك من خلال تبنيها لمبدأ ثابت وراسخ في عديد احكامها، (لطفا انظر الحكم رقم 8438 لسنة 2024 - محكمة التمييز بصفتها الحقوقية، الصادر بتاريخ 2024-12-31، والذي جاء به: "....ولما كان الشيك موضوع المطالبة مستوفياً لكافة بيناته الإلزامية المنصوص عليها بالمادة 228 من قانون التجارة فإنه كافٍ بذاته لإثبات سبب الدين وبالتالي فإن عدم الأخذ بالبينة الخطية والشخصية يكون في محله، كون موضوع الدعوى هو التزام صرفي للمطالبة بقيمة شيك يعتبر أداة وفاء ويتمتع بمبدأ الكفاية الذاتية ويغني حامله عن أي بينة أخرى..").
(لطفا انظر الحكم رقم 2978 لسنة 2024 - محكمة التمييز بصفتها الحقوقية، الصادر بتاريخ 2024-07-23 والذي جاء فيه: "... أن الكمبيالة في هذه الحالة تعد أداة وفاء خصوصاً وأنها منظمة بناء على المعلومات الواردة في كشف المعالجة الذي يستند إليه المميز من ضمن بيناته كما أسلفنا مما يعد معه الدعوى هي دعوى صرفية للمطالبة بقيمة كمبيالة ورقة تجارية وفق التعريف الوارد في المادة 123/ب من قانون التجارة بأن الكمبيالة محرر مكتوب وفق شرائط مذكورة في القانون ويتضمن تعهد محرره بدفع مبلغ معين بمجرد الاطلاع أو في ميعاد معين أو قابل للتعيين لأمر شخص آخر هو المستفيد أو حامل السند..").
وبالتالي، فإن اعتبار الورقة التجارية التزامًا تعاقديًا يخضع لحظر الحبس يضعف من قيمتها القانونية كأداة وفاء، خصوصًا بعد رفع الحماية الجزائية عن الشيك بموجب تعديل قانون العقوبات، مما يحتم التعامل مع الاوراق التجارية ضمن إطار قانوني يراعي طبيعتها الخاصة.
3. عقود العمل: هل يُحبس العامل؟
ورَدَت عبارة "عقود العمل" في النص بصيغة مطلقة، ما يُثير إشكالًا قانونيًا:
هل يُحبس العامل إذا ترتب عليه التزامٌ ناشئٌ عن عقد عمل؟
نرى أن الصياغة الحالية تفتح الباب لهذا الاحتمال، وهو ما يتعارض مع فلسفة الحماية القانونية للعامل بوصفه الطرف الأضعف، ومن وجهة نظرنا كان الأولى بالمشرّع (مع الاحترام) أن يُقيّد الاستثناء بعبارة: "الحقوق العمالية" لا "عقود العمل" بإطلاقها.
4. الأثر الاقتصادي:
أدى منع الحبس إلى تراجع الثقة بالأوراق التجارية، ما دفع العديد من التجار للجوء إلى المعاملات النقدية الفورية، هذا التغير ساهم في تقليص أدوات الائتمان التجاري (البيع الآجل، الشيكات المؤجلة، الكمبيالات)، مما يُهدد بانكماش اقتصادي في كافة القطاعات.
-تحليل قانوني وتأصيلي:
يعكس التعديل تحوّلًا من منطق الردع الشخصي إلى منطق المعالجة المدنية، وهو تطور محمود من منظور حقوق الإنسان، لكنه يتطلب بنية تنفيذية متكاملة لحماية مصالح الدائن ومنع استغلال النص.
التوصيات:
1. تعديل نص المادة (22/و/1) ليستثني "الحقوق العمالية" بدلًا من "عقود العمل".
2. إصدار تعليمات تنفيذية واضحة لتحديد آلية إثبات العجز.
3. إصدار تعميم واضح من الجهات القضائية المختصة، يحدد الموقف من مدى اعتبار الأوراق التجارية التزامات تعاقدية ، مع مراعاة منظومة التشريعات السارية وطبيعتها الخاصة، والعمل على رفع توصيات بالتعديل على النصوص ذات الصلة.
4. تعزيز وسائل التحصيل المالي للدائن، وتفعيل بدائل الحبس التنفيذي في الالتزامات التعاقدية.
5. تحديث المنظومة التشريعية بما يواكب التعديلات ويُعيد التوازن إلى العلاقة بين الدائن والمدين.
- خاتمة:
يشكل سريان نص المادة (22/و/1) خطوة مهمة نحو حماية الحريات وتعزيز الالتزام بالمعايير الدولية، لكن التطبيق العملي يبرز عدة إشكاليات، أبرزها غموض الصياغة، والاستثناءات، وأثر ذلك على الائتمان التجاري.
إن العدالة التنفيذية لا تقوم فقط على منع الحبس، بل على تحقيق توازن حقيقي بين الدائن والمدين، في إطار بيئة قانونية واضحة ومحدّدة تُحترم فيها الحقوق وتُفعّل فيها الضمانات.