جذور الأزمة وسبل الإصلاح
النائب الاسبق باسل عياصرة
12-07-2025 12:17 PM
في خضم التحديات المتصاعدة التي يواجهها الأردن، تبرز فجوة آخذة في الاتساع بين المواطن ومؤسسات الدولة المدنية. هذه الفجوة، التي باتت ملموسة في الشارع والوجدان العام، لم تنشأ من فراغ، بل تشكّلت بفعل تراكمات سياسية واقتصادية وإدارية مزمنة، دفعت قطاعات واسعة من الشعب إلى فقدان الثقة بالدولة، أو على الأقل، بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية.
فلماذا تراجعت الثقة؟ ولماذا بلغت المديونية العامة حدودًا مقلقة؟ والأهم، كيف يمكن ترميم العلاقة بين المواطن والدولة في لحظة حرجة كهذه؟
أولًا: أزمة ثقة تتجاوز الشعارات
الثقة بين الدولة والمواطن ليست مسألة علاقات عامة، ولا تُستعاد عبر الخطاب العاطفي وحده. إنها محصلة تجارب طويلة من الوعود غير المنجزة، والشفافية الغائبة، والعدالة الناقصة.
لقد اعتاد الأردني أن يرى الفساد ولا يرى الحساب، أن يسمع عن الإصلاح ولا يلمس التغيير، أن يشارك في الانتخابات دون أن يشعر أن صوته يصنع فرقًا. وما زاد الطين بلّة هو تعمّق ثقافة "الواسطة"، واحتكار الفرص من قبل فئة محددة، وغياب التوازن بين المركز والأطراف.
ثانيًا: مديونية متصاعدة واقتصاد يئن
لقد تجاوز الدين العام الأردني حاجز الأربعين مليار دينار، في وقت لا يشعر فيه المواطن بأي انعكاس إيجابي لهذا الدين على حياته اليومية. فأين ذهبت هذه الأموال؟ وما هي جدوى كل هذه القروض إذا بقيت البطالة مرتفعة، والنمو محدودًا، والاستثمار خجولًا؟
الإجابة تكمن في اختلالات بنيوية واضحة:
اعتماد مزمن على الاقتراض الخارجي دون خطة إنتاج حقيقية.
تضخم النفقات التشغيلية في مقابل استثمار متواضع.
مشاريع حكومية غير مدروسة، وقرارات اقتصادية غير مبنية على رؤية واضحة.
غياب الرقابة الصارمة على المال العام.
ثالثًا: ما العمل؟ خارطة طريق لا تحتمل التأجيل
استعادة الثقة لا تتم عبر المسكنات، بل من خلال مراجعة وطنية جادة وشجاعة، تبدأ من النقاط الآتية:
1. إصلاح سياسي حقيقي لا تجميلي:
تطوير قانون انتخاب يعكس الإرادة الشعبية، وإعادة التوازن بين السلطات، وتحفيز الحياة الحزبية.
2. مكافحة فعلية للفساد، لا موسمية:
فتح ملفات الفساد أمام الرأي العام، ومحاسبة كبار المتنفذين دون محاباة أو استثناء.
3. عدالة في توزيع الفرص:
ردم الفجوة بين المركز والأطراف، وضمان تكافؤ الفرص في العمل والتعليم والمشاركة السياسية.
4. تمكين الكفاءات الأردنية في الخارج:
إطلاق استراتيجية وطنية واضحة لاستعادة العقول الأردنية المبدعة، وإشراكها في إدارة مؤسسات الدولة بفعالية، بعيدًا عن التصنيفات والولاءات.
5. تعيين الرجل المناسب في المكان المناسب:
اتباع معيار الكفاءة وحده، لا القرب السياسي أو مستوى "الرضا الأمني"، تمامًا كما تفعل الدول المتقدمة.
6. تفكيك الشللية وجماعات الضغط:
وضع حد لتلك الدوائر المغلقة التي تتحكم بالمواقع العليا وتُسخر الدولة لخدمة مصالحها. لا إصلاح دون تفكيك نفوذها بالكامل.
7. سياسة إعلامية حرة وعقلانية:
نحتاج إلى إعلام يحترم وعي المواطن، ويخاطبه بالعقل والمنطق، ويروّج للسياسات الواقعية لا الوهمية، ويكفّ عن دور التزييف أو التبرير.
8. معالجة البعد الاجتماعي لظواهر الجريمة:
تزايد جرائم القتل والسرقة والمخدرات ليس فقط تحديًا أمنيًا، بل علامة خلل اجتماعي واقتصادي عميق.
وهذا يستدعي:
دراسة علمية معمقة لدوافع الجريمة.
تطبيق صارم للقانون دون وساطات.
إشراك الأسرة والمدرسة والجامعة والمساجد والإعلام في إعادة بناء القيم.
تحويل طاقات الشباب إلى إنتاج ومبادرة بدل الإحباط والغضب.
قطع الطريق على ثقافة الإفلات من العقاب.
ختامًا:
استعادة ثقة المواطن ليست أمنية بل شرط لبقاء الدولة قوية، مستقرة، آمنة.
فلا دولة تقوم على مؤسسات بلا احترام شعبي، ولا عقد اجتماعي يصمد إذا شعر المواطن أن العدالة غائبة، والفرص محتكرة، والصوت لا يُسمع إلا عند الصناديق.
آن الأوان أن نقول الحقيقة، وأن نبدأ من حيث يجب أن نبدأ، لا من حيث تُرضي العناوين أو نستهلك الوقت.