فلسطين بين النضال والتسليع: حين تتحوّل القضية إلى سلعة
صالح الشرّاب العبادي
16-07-2025 11:13 AM
ليست القضية الفلسطينية مجرّد صراع جغرافي أو نزاع سياسي عابر، بل هي خلاصة قرن من الظلم التاريخي، ومرآة مكشوفة لانهيار المعايير الأخلاقية في النظام الدولي، وصوت شعب لم يتوقف عن المطالبة بحقّه في الحياة، رغم أنف التجاهل، والحصار، والقمع، والخذلان.
لكن المأساة الحقيقية اليوم، لا تكمن فقط في استمرار الاحتلال، بل في ذلك التحوّل الخطير الذي أصاب جوهر القضية نفسها ، فبعد أن كانت فلسطين عنوانًا للنضال، ومعنىً للتضحية، باتت في نظر البعض مشروعًا سياسيًا قابلًا للتسويق، أو سلعة إعلامية تُعرض في مواسم محددة، وتُغلق صناديقها بعد انتهاء العرض ، أو استغلالاً للضهور وجمع الملايين ..
لقد أصبحت القضية الفلسطينية اليوم، عند كثير من الجهات والأشخاص، مادة للاستهلاك الإعلامي والسياسي والمالي . تُستخدم لتلميع الوجوه، وتحقيق المكاسب، والصعود على سلالم الأضواء ، هناك من يحوّلها إلى مؤتمرات فخمة وفنادق خمس نجوم وسفراء للسلام والتعايش، وهناك من يتاجر بدماء الشهداء ليحصل على بطاقة “فيزا” أو حساب مصرفي في الخارج … !!
بل إن بعض الجهات لم تتردد في استغلال دماء غزة تحديدًا، وتحوّلت معاناة أهلها إلى سوق مفتوح للتربّح باسم التضامن ، فتُجمع التبرعات، وتُرفع الشعارات، وتُستخدم صور الأطفال والدمار، لا لإيصال الغذاء والدواء، بل لفتح حسابات، وتمويل أنشطة لا تمت بصلة لأهداف الإغاثة أو المقاومة ، حتى “لقمة العيش” أُدرجت ضمن مشاريع سياسية وانتفاعية، حيث باتت المساعدات وسيلة للهيمنة، لا للنجدة، وذريعة للظهور، لا للتضامن الحقيقي ، وتمويل مشاريع سياسية مصلحية ..
هذا التحوّل من مشروع تحرر وطني إلى مشروع سلطة وامتيازات هو أخطر ما يواجه فلسطين اليوم ، فحين تتحول دماء الشهداء إلى بنود ميزانية، وتُقدَّر المعاناة بعدد المشاهدات والإعجابات، وتصبح غزة عنوانًا لخطابات وتحليلات وبودكاسات فضائية ، لا لإشعال جذوة التعبئة الشعبية الصادقة، فنحن نكون أمام انفصام كامل بين جوهر القضية وشكلها المروّج.
ولعل الأخطر من كل ذلك، هو أن تصبح فلسطين بوابة لبعض الأنظمة والحركات للتقرب من قوى النفوذ العالمية، لا بهدف خدمة القضية، بل لاستثمارها كورقة ضغط، أو كوسيلة لتعزيز شرعية منهارة ، وهكذا نرى القضية تُختزل في شعارات، وتُسحب من ميادين الفعل إلى استوديوهات التحليل الساذج والمدفوع مسبقاً ، ومن ساحات المواجهة إلى كواليس الصفقات.
لكن، وعلى الرغم من كل هذا التشويه المتعمد، تظل الحقيقة واضحة: فلسطين لا تختصرها الصور، ولا تمثلها المؤتمرات، ولا تنطق باسمها النخب المتسلقة ، والجهات المغلفة بإسم الإسلام ، فلسطين هي أم الشهيد التي لم تنم، والأسير الذي يقاوم القهر، والمخيم الذي يربي الأمل وسط الخراب ، هي الأرض التي تُحرث بالدم، والبيت الذي يُهدم ليُبنى من جديد بالحجارة نفسها.
فلسطين لا تموت، لكن من الممكن أن تُخان.
وها نحن نعيش زمن الخيانة المغلفة بالاتجاهات ، وسرديات الهدن ، والاحتلال المقنّع بالتنسيق، والمقاومة المحاطة بالكاميرات.
ويبقى السؤال الأشد إيلامًا:
هل ضاعت فلسطين، أم ضاع الناس من حولها؟