حين لا يكون الخروج من الوطن قرارًا بل قدرًا
فراس النعسان
20-07-2025 05:23 PM
لا يولد المنفى من رغبةٍ، بل من انسداد. لا يشبه قرار السفر في لحظة نزق، ولا يشبه الهرب، بل يشبه البقاء معلّقًا بين رغبتين: أن تبقى حيث لا تستطيع، أو تغادر حيث لا تريد.
ثمة أبواب نغلقها خلفنا دون أن نملك مفاتيحها، وثمة حقائب لا نحزمها بأيدينا، بل يحزمها القلق والتأرجح بين أمسٍ لم يكتمل وغدٍ بلا ملامح. وفي تلك اللحظة الرمادية، حين نُنتزع من تفاصيل اعتدناها، لا نغادر المكان بقدر ما نغادر أنفسنا القديمة.
في الذاكرة، المدن لا تبهت، بل تتكثف. الشارع الأول، رائحة الغبار بعد المطر، الأذان من مسجد الحي، عيون الجيران التي لا تسألك من أنت لأنهم يعرفونك من طريقة المشي. كل تلك التفاصيل تصبح أكثر حضورًا حين تغيب.
ولأن الوطن لا يُعرّف بخريطة، بل بإحساس، فإن المنفى ليس دائمًا مكانًا آخر. قد يبدأ في قلب المكان ذاته، حين تتغير ملامحه، حين لا يعود صوتك مألوفًا، حين تصبح لهجتك لهجة غريب، حين تُصبح أسئلتك تهمة، وحين لا تعود الحكاية التي ترويها مُرحبًا بها.
الذين يغادرون أوطانهم لا يفعلون ذلك لأنهم كرهوا الأرض التي أنجبتهم، بل لأن تلك الأرض ضاقت فجأة بما فيها. أحيانًا لا نغادر لننجو، بل لنحافظ على صورة الوطن في دواخلنا، أن نظل نحبه من بعيد دون أن نخسره من قرب.
كثيرون خرجوا لا لأنهم أرادوا، بل لأن الزمن خانهم. مثل إدوارد سعيد الذي ظل يحمل القدس في صوته دون أن يزورها، لا لأنه تخلى عنها، بل لأنها لم تعد ممكنة كما عرفها. أو مثل مظفر النواب، الذي ظلّ يردد العراق في كل قصيدة وهو يعبر المطارات والخرائط، لا كلاجئ، بل كمقيم في ذاكرة اللغة.
المنفى لا يمحو الانتماء، بل يكشف عمقه. والمغترب لا يخون وطنه، بل يحرسه كما تُحرس القصائد في الغياب. فالوطن ليس مكانًا فقط، بل شعور بالاتساق، بطريقة الكلام، بكيفية البكاء، بقدرتك على أن تُسمي الأشياء بأسمائها دون خوف.
ليس المنفى نفيًا للمكان، بل إعلان عن انكسار السياق. أن تجد نفسك مضطرًا لتبرير حزنك، أو لتفسير شوقك، أو لتعتذر عن لهجتك التي انكسر بها اسمك في فم موظف الحدود.
وحين تصبح العودة إلى الوطن أصعب من الرحيل عنه، حين تشعر أن المطار لم يكن محطة، بل مفترقًا، حين لا تعود واثقًا أن البيت القديم ينتظرك كما تركته، تدرك أن المنفى لم يعد مجرد مسافة، بل طريقة حياة.
وحدها اللغة تنقذك. الكتابة تصبح بوصلة، والصوت الذي كان يُنادى به عليك في الحارة القديمة، يصبح قصيدة. الوطن يختبئ في الاسم الأول، في نظرة الوالدة حين تفتح مكالمة الفيديو، في تلك الدموع المتوترة التي لا تعرف إن كانت دموع حنين أم ندم.
الذين يكتبون عن أوطانهم لا يفعلون ذلك ليُدينوا، بل ليُحبّوا بشكل مختلف. ليقولوا: كنا هناك، ولسنا بعيدين إلا بالجسد. فالبعد الجغرافي لا يلغي القرب العاطفي، والمنفى لا يقتل الانتماء، بل يعمّقه حين يكون الوطن حاضرًا في كل غياب.