الهوية الوطنية بين الثابت الديني والانتماء السيادي
د. فاطمة العقاربة
20-07-2025 10:29 PM
" قراءة في شعار الدولة ومنظومتها العقدية"..
في خضم ما تشهده الساحة الإقليمية من تحوّلات متسارعة، ومع ما يطرأ على الداخل الأردني من استحقاقات مصيرية، تبرز الحاجة إلى التمسك العميق بالهوية الوطنية كمرجعية جامعة، تتجاوز التعريفات الجغرافية أو المصلحية، لتتجلى في ارتباط عقدي بين الإنسان الأردني ووطنه، يستمد مشروعيته من الإيمان بالله، والانتماء للأرض، والولاء للقيادة الهاشمية الشرعية. إن الهوية الوطنية في الأردن ليست حالة طارئة فرضتها الأحداث، بل هي ثمرة تاريخ ممتد وتجربة إنسانية ودينية وسياسية متكاملة، ارتكزت على شعار لم يكن يومًا شعارًا فارغًا، بل منظومة إيمانية متكاملة، هو شعار "الله، الوطن، الملك".
لقد تربى أبناء الأردن على هذا الشعار منذ نشأتهم، فكان الإيمان بالله هو المنطلق الأول، لا على هيئة تنظير حزبي أو شعارات دينية مستهلكة، بل كعقيدة صافية تنأى بالدين عن الاستغلال والتسييس. الدين في الأردن لم يُختزل يومًا في حزب أو جماعة، ولم يكن سلعة للمزاودة أو وسيلة للوصول إلى السلطة، بل هو منطلق للسلوك القويم، ومصدر للرحمة، ودافع للدفاع عن الوطن. فحب الوطن من الإيمان، والذود عنه من صميم العقيدة، والحرص على استقراره مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون سياسية.
وقد أثبتت الدولة الأردنية، بقيادتها ومؤسساتها، أن المرجعية الدينية الحقيقية لا تُمنح لجماعة أو تيار، بل هي ملك للأمة، تحميها الدولة وتحفظ نقاءها من كل استغلال. وفي هذا السياق، جاء قرار حظر جماعة الإخوان المسلمين كتعبير عن موقف وطني يرفض اختطاف الدين وتجييره لخدمة أجندات خارجية، تؤمن بالتنظيم قبل الوطن، وتوالى الخارج قبل الداخل. هذا القرار لم يكن مواجهة للدين، بل حماية له من أن يُستغل في إنتاج خطاب الكراهية والانقسام، وتجنيب المجتمع ويلات التفرقة والتحريض.
إن الأردن بقيادته الهاشمية قدّم نموذجًا فريدًا في التعامل مع الدين، لم يتماهَ مع التيارات المتشددة، ولم ينخرط في مشاريع التسييس الديني، بل أطلق واحدة من أهم الوثائق الفكرية والدينية في العصر الحديث، وهي رسالة عمّان، التي عبّرت عن جوهر الإسلام الحقيقي، إسلام التسامح والتعايش والاعتراف بالمذاهب، ورفض التكفير والتحزب والتعصب، لتؤكد أن الدين في الأردن ليس أداة للفرقة، بل جسرًا للوحدة. وهذه الرسالة لم تكن مجرد إعلان، بل تمثلت في واقع الدولة، حيث يعيش المسلمون والمسيحيون وغيرهم في نسيج وطني واحد، يعتنقون القيم ذاتها، ويتشاركون في صناعة المستقبل ذاته.
وما يلفت النظر أن هذا النموذج الأردني في التعايش لا يقطع مع الإرث الإسلامي، بل يستلهمه من الجذور، من وثيقة المدينة التي وضعها النبي العربي الهاشمي محمد صلى الله عليه وسلم، حين أسس دولة قائمة على المواطنة، والتعدد، والعيش المشترك، حيث كانت الذمة واحدة، والولاء للدولة، والحماية مسؤولية الجميع، بغض النظر عن الدين أو الانتماء. هذا هو الفهم الحقيقي الذي يتماهى مع الهوية الوطنية الأردنية، التي تجعل من الانتماء للأردن قيمة عليا، لا تنازعها جماعة، ولا تحتكرها أيديولوجيا.
وفي ظل ما تتعرض له المنطقة من محاولات تفكيك وتشظٍ، تبقى الهوية الوطنية هي خط الدفاع الأول عن المجتمع، فهي التي توحّد، وتحول دون الانزلاق في مستنقعات الاستقطاب. إنها ليست هوية مؤقتة، ولا حالة مزاجية، بل عقيدة سياسية وأخلاقية وثقافية، تعبر عن ارتباط وجداني وفكري وروحي بين المواطن والدولة. وحين نقول "الله، الوطن، الملك"، فنحن لا نردد شعارًا، بل نُجدد عهدًا، نؤمن فيه بالله الذي يأمر بالعدل والرحمة، وننتمي إلى وطن هو مصدر عزتنا وكرامتنا، ونُخلص لملك يمثل رمز وحدتنا وراية سيادتنا، ويحمل إرث الهاشميين في الدفاع عن الأمة ومقدساتها.
لهذا، فإن مسؤولية صيانة الهوية الوطنية تقع على عاتق الجميع، ولا تتحقق إلا بالوعي، والانتماء الصادق، ورفض المزاودات، وتجذير قيم المواطنة، والإيمان بأن هذا الوطن، بما فيه من تنوع، وما لديه من ثوابت، هو نعمة يجب الحفاظ عليها، وإرث يجب صونه، ومستقبل يجب أن نبنيه بإخلاص ويقين. فالأردن ليس محطة عابرة في التاريخ، بل هو نموذج للاستقرار في إقليم مضطرب، ومخزن للقيم في زمن الاضطراب، وتجسيد عملي لهوية تُحيا… لا تُدّعى.
*د. فاطمة العقاربة
علاقات دولية وادارة سياسية
مستشارة تخطيط استراتيجي