تقلبات النظام السياسي الدولي الراهن
أ.د خالد مفضي الدباس
21-07-2025 03:54 PM
تشكل وثيقة "الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي" المنشورة في الثالث من مارس 2021، تعبيرا حقيقيا عن تراجع مكانة الولايات المتحدة الامريكية من على سلم القوى الدولية، فقد أضحت الولايات المتحدة الامريكية تمر بمرحلة مخاض عسير عبر انتقالها القسري من قطب مهيمن الى قطب رئيس من اقطاب النظام الدولي، فقد أصبحت تواجه إشكاليات كبرى في إدارة النظام السياسي العالمي، نتيجة لبروز قوى دولية رئيسية مناوئة للسياسات الامريكية والهيمنة الغربية، كالصين وروسيا، وإيران.
شكلت المقاربات الفكرية التي طرحها بريجنسكي مدخلا مهما، يمكن الانطلاق منه في فهم مستقبل النظام السياسي الدولي وتقلباته، فقد دعا الولايات المتحدة الامريكية إلى الاختيار ما بين (الهيمنة) أو (القيادة)، لإن اتخاذ امريكا موقع المهيمن المنفرد على الاقتصاد العالمي، لم يعد ممكنا، وسيضر بسياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، وهو امر يمكن تفاديه من خلال اتخاذها وضعية القيادة، والتخلي عن طموحات الهيمنة غير الواقعية في ظل تصاعد ملحوظ لقوى أخرى كالصين وروسيا، وأوروبا، فقد اكد بريجنسكي أنَ الهيمنة الأمريكية اصبحت في أيامها الأخيرة، وأن السياسة الأمريكية يجب ان تعدل باتجاه خلق تحالفات جديدة حتى مع القوى الصاعدة، و الهدف من ذلك كله هو إعادة التموضع لبقائها قوة عالمية فاعلة، فقد كانت الطرائق الأميركية تغزو العالم بالتدريج، وخلقت الوسط الأكثر ملاءمـة لممارسـة الهيمنة التي كانت تبدو وكأنها ذات طابع يوجد إجماع عليه، حيث تدعمت السيادة العالمية الأمريكية بوساطة منظومـة دقيقـة مـن التحالفـات، والائتلافات تمتد في كل أنحاء العالم، لكن الأحوال قد تبدلت وبدأت القوى الصاعدة تكشر عن انيابها رافضة الهيمنة الامريكية المطلقة، وبدأت تبحث عن تحقيق مصالحها رغما عن إرادة المهيمن.
طرحت نظرية الاستقرار المهيمن فكرة أن النظام السياسي الدولي يميل إلى الاستقرار، عندما تصبح دولة ما هي القوة العالمية المهيمنة، وتمتلك مفاتيح السيطرة على مقدرات النظام الدولي، وأنه يميل إلى الفوضى والاضطراب عندما تعجز القوة المهيمنة عن فرض مثل هذه الهيمنة من خلال ادواتها الديبلوماسية أو الاكراهية، او الاقناعية.
الدبلوماسية، وقياسا على هذا المنطق، فقد بدأت الولايات المتحدة تفتقد شروط الهيمنة اللازمة للمحافظة على استقرار النظام الدولي، ولم تعد تملك من وسائل الاكراه والاقناع الا في مواجهة الأطراف غير الرئيسية في النظام الدولي، ولم تعد تملك القدرة على تحمل التكاليف الباهظة (ضريبة الهيمنة)، في مقابل المزايا التي تحصل عليها.
مخاطر جمة تتخلل مرحلة المخاض، والتحول من القطبية الأحادية نحو التشاركية في إدارة النظام الدولي، فالفوضى الاقتصادية بين الحربين العالميتين الأولى، والثانية، والتي قادت الى الكساد العظيم عام1929، لم تكن في النهاية الا نتاجا لغياب القوة المهيمنة قبل ان تكون نتاجا للسياسات الحمائية التي انتهجتها الدول للمحافظة على اقتصاداتها.
وحتى تستقر الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، وتلافيا للفوضى فإنه يُشترط في الدولة الراغبة بالصعود إلى مستوى القوة المُهيمِنة، أن تملك اقتصاداً جبارا وديناميكيا، ويهيمن على قطاعات تكنلوجيه بعينها، وتحظى بأهمية عالمية تمنح المُهيمن مزية، وعلامة فارقة تستعصي على الاخرين الحصول عليها. كما لم يعد الجيش المدافع الصامد كافيا لتنتقل الدولة بموجبه الى مصاف الدول المهيمنة، بل ينبغي ان تمتلك الدولة قوة بحرية، وجوية، متفوقة مع القدرة الفائقة على الانتشار والوصول الى مواقع الصراع أينما وجدت.
كما يشترط في المُهيمن القادم امتلاك الإرادة السياسية للقيادة والهيمنة بهدف انشاء نظام دولي يستطيع قيادته وتطبيق قواعده، مع ضرورة التنويه الى أن وجود الإرادة لا يكفي مالم تمتلك الدولة مقومات الهيمنة الأخرى، فقد عجزت بريطانيا عن إدارة النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تستطع منع الكساد العظيم، بالرغم من وجودة الارادة السياسية لتحقيق ذلك، فلم تستطع فرنسا قيادة النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بعد مغامراتها الفاشلة في فيتنام والجزائر. كما ان من شروط الهيمنة ان تلتزم القوة المُهيمِنة بالنظام الذي تتسيده، والذي يجب أن يحقق المنفعةً المتبادلة مع القوى العظمى، والفاعلة في النظام الدولي.
في ظل هذه المعادلات المعقدة لصراع الهيمنة بين عمالقة النظام الدولي، فإن الحديث عن تحول قسري ومفاجئ في بنية النظام الدولي الحالي، أمر غير وارد على الأقل خلال العشر سنوات القادمة، على الرغم من ان حدة الاستقطابات الدولية ستتفاقم، وستمتد على فترات متقطعة(الملف الاوكراني، والإيراني، وتايوان)، وعلى الرغم من ان الولايات المتحدة الامريكية قد بدأت تفتقد شروط الهيمنة الا ان التحول الجذري غير كائن، نتيجة لغياب أي قوة دولية مكافئة تمتلك شروط الهيمنة بكليتها، كما ان أسلوب الهيمنة الامريكية خلال ما يزيد عن سبعة عقود قد عمل على ربط اقتصاديات العالم بالاقتصاد الأمريكي من خلال قوة الدولار، فالجميع سيغدو خاسرا، لان الجميع يرقد في مركب الدولار، كما الولايات المتحدة لن تسمح بحلول مهيمن اخر، لأن اقتصادها مصمم بنيويا على فكرة الهيمنة، لكن الامر لن يصل الى حدة الصدام المسلح، لأنه لن يكون بعد الحرب سياسة على حد تعبير غورباتشوف.