الهيمنة الامريكية على النظام الاقتصادي الدولي
أ.د خالد مفضي الدباس
22-07-2025 01:01 PM
لم تتأتى عملية تحقيق الهيمنة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة الامريكية على النظام الاقتصادي العالمي بمحض الصدفة، ولا بدعوات المستجيرين، وإنما بفعل تخطيط هندسي واستراتيجي قوامه استثمار الأزمات على الوجه الذي يأتي بعظيم الفائدة على الاقتصاد الأمريكي.
هذه النمطية في العمل السياسي قوامها النهج البراجماتي الذي يسيطر على فكر؛ وسلوك صناع القرار في المؤسسات الامريكية، وهو أمر لا يستغرب فقد نشأت البراجماتية في الولايات المتحدة الأمريكية، وتمحورت حول ضرورة أن تنزل السياسة من برجها العاجي لتعالج مشكلات الدولة، لأن عظمة الفكرة منوطة بنتائجها، وأن الواقع هو المقياس العملي لأي نظرية، فالفكر الذي يحقق نفعاً هو الفكر الصحيح الذي يجب تبنيه، وهكذا دأبت السياسة الأمريكية على هذا النهج البراجماتي الذي يضمن لها تحقيق الهيمنة الاستراتيجية على مستوى النظام الدولي خلال القرن العشرين، ويمكن إبراز أهم الشواهد التاريخية.
فقد تم تأسيس نظام الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة الامريكية في 23 ديسمبر 1913، أي قبيل اشتعال الحرب العالمية الأولى (28/7/2014) بسبعة أشهر، وهو ما يؤكد أن الحرب العالمية الأولى لم تكن لتشتعل حسب رأي كثير من المؤرخين قبل إنشاء الاحتياطي الفدرالي الأمريكي حيث استطاعت الولايات المتحدة بفضل هذا النظام أن تتحول من دولة مدينه، قبيل الحرب، إلى دولة دائنة عبر تقديمها المساعدات الاقتصادية، والقروض للحلفاء، دون أن تعلن عن ذلك رسمياً، كي لا تعد طرفاً في الصراع، وبذلك استطاعت الحد من الآثار السلبية للأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف بالاقتصاد الأمريكي قبيل الحرب، وخرجت بعدها قوة اقتصادية جبارة.
كما كلفت الحكومة الامريكية المصرفي جون مورغن بمهمة تقديم القروض والمساعدات للدول الأوروبية الحليفة لها في الحرب العالمية الأولى، وقد انهالت هذه الدول للحصول عليها، وعندما بدأت قيمة الجنيه الإسترليني، والفرنك الفرنسي بالتدهور، طلبت الحكومة الامريكية ضمانات لسداد الديون، ولتقديم مزيد من القروض، فاضطر الحلفاء الأوروبيين إلى نقل مخزوناتهم من الذهب، وايداعها في البنوك الأمريكية، وهكذا تحولت أمريكا الى أكبر مستودع للذهب في العالم.
وامتنعت الولايات المتحدة عن دخول الحرب العالمية الأولى في بدايتها، كي لا تزج اقتصادها في أتون حرب طاحنة، ولم يكن قرارها دخول الحرب إلا في السادس من ابريل عام 1917، أي بعد مرور ثلاث سنوات، على الرغم من تعرض السفن الامريكية للاعتداء من قبل القوات الألمانية قبل هذا التاريخ، بمعنى أن التدخل الأمريكي جاء بعد اُنهِكَت الأطراف المتحاربة، وبدأت تلوح في الأفق بوادر انتهاء الحرب لمصلحة الحلفاء، كما أن الولايات المتحدة قد أرسلت المقاتلين البورتوروكيين للقتال في أوروبا بعد أن تم تجنيسهم.
اسفرت نتائج الحرب العالمية الأولى عن استنزاف القدرات الاقتصادية للقوى الأوروبية المتحاربة، وتحولها من دول دائنة الى دول مدينه للاقتصاد الأمريكي، وهكذا بدأت الولايات المتحدة تظهر بوصفها قوة اقتصادية جبارة، ومهيمنة على القارة الأوروبية، وقد كانت هذه هي الخطوة الأولى في طريق احقاق الهيمنة الامريكية على النظام الاقتصادي العالمي.
مثلت الحرب العالمية الثانية الفرصة السانحة الثانية التي رسخت الزعامة الامريكية للعالم، فعلى الرغم من أن السبب العسكري المباشر لدخول الولايات المتحدة الحرب تمثل بالهجوم الياباني على بيرل هاربر، إلا أن الأسباب الاستراتيجية تمثلت في منع سيطرة ألمانيا وهيمنتها على العالم، ومحاربة التوسع الياباني في الشرق الأقصى، بالإضافة إلى احقاق الهيمنة العسكرية والاقتصادية الأمريكية على أوروبا. وكانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة من الدول المتحاربة التي لم تصب بخسائر كبيرة، وعدها الكثيرون بأنها المنتصر الأوحد في الحرب.
بمجرد أن بدأت الحرب تضع اوزارها، عمدت الولايات المتحدة الى تشييد نظام اقتصادي عالمي يحقق لها الهيمنة، ويكون الدولار الأمريكي محوراً أساسياً في التجارة العالمية لغايات تأمين الاستقرار والنمو الاقتصادي العالمي، وبما يخدم الاقتصاد الأمريكي، ولذلك فقد دعت الولايات المتحدة إلى عقد مؤتمر بريتون وودز سنة 1944، بحضور أربع وأربعين دولة، والعمليات الحربية كانت لا زالت مستعرة، ورغم مشاركة الاتحاد السوفياتي في أعمال المؤتمر فإنه لم ينضم إلى عضوية صندوق النقد الدولي لأنه رأى فيه هيمنة واضحة للاقتصاد الأميركي على النظام المقترح، وهو أحد الأخطاء الاستراتيجية الكبرى التي ارتكبها السوفييت، وهو ما تأكد فيما بعد، فقد أضحى الدولار هو العملة العالمية المهيمنة بلا منازع على نظام التجارة العالم، إذ تم استخدام الدولار فيما يقرب من (85٪) من جميع معاملات الصرف الأجنبي. كما أن ما يقرب من ثلثي جميع الاحتياطيات التي تحتفظ بها البنوك المركزية في العالم أصبحت بالدولار الأمريكي.
وعندما طالب الرئيس الفرنسي تشارل ديغول عام 1971م تحويل الدولارات الأمريكية الموجودة لدى فرنسا إلى ذهب وفقاً لاتفاقية بريتون وودز; أدّى هذا الأمر إلى عجز الولايات المتّحدة لاحقًا عن تحويل أية دولارات أمريكية إلى الذهب بسبب تكاليف الحرب في فيتنام التي أرهقت الاقتصاد الأمريكي، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى إصدار بيانه عام 1973 والغى بموجبه التزام الولايات المتّحدة تحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، وعُرف لاحقًا باسم صدمة نيكسون;إذ تورطت دول العالم بتكديس الدولار الأمريكي في احتياطاتها النقدية.
بعد أزمة منع تصدير النفط للدول الغربية التي ساندت الاحتلال الصهيوني في عدوانه عام 1973، قامت الولايات المتحدة بإعادة انتاج هيمنتها الاقتصادية على العالم بأسره، على الرغم من أن القرار أحدث في البداية تغييراً ملموساً في موازين القوى العالمية لمصلحة الدول النامية وشكل ضربة قوية للقوى الغربية، لكن قرار ربط النفط بالدولار أعاد انتاج السيطرة الأمريكية من جديد، إذ عمدت الولايات المتحدة الى رفع سعر برميل النفط بشكل كبير مقابل ربطه بالدولار، وكانت هذه الخطوة بمثابة الخديعة الكبرى التي أوقعت فيها الدول النامية، واضاعت فرصة التخلص من الهيمنة، وتحقيق التنمية.
إن شجرة العلائق التي غرستها الولايات المتحدة جعلت من اقتصاديات الدول الأخرى فروعا للاقتصاد الأمريكي، وروافع له، وإمكانية الانفصال عنها غير كائنة في المستقبل القريب، والعابث فيها سيكون أول الخاسرين، ولذلك فأن دول العالم ستكون حريصة أشد الحرص على عدم تهاوي الاقتصاد الأمريكي، لأنها ستكون أول الخاسرين، ولعدم توفر البدائل.
وفقاً لهذه المعادلة التاريخية، تشير المعطيات المستقبلية أن ضمان عدم بروز أي قطب اقتصادي مناوئ للهيمنة الأمريكية ستكون مهمة صانع القرار الأمريكي في المقام الأول، لأن ظهور مثل هذا القطب يعني نهاية هيمنة الدولار، وانهيار الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية، وهو ما يحتم على الولايات المتحدة اتباع استراتيجية قوامها افتعال صراعات لمنع خصومها المحتملين من الصعود، ولعل الروس كانوا أول من وقع في الفخ الأمريكي.