خدر الإنسانية في زمن المأساة
فراس النعسان
22-07-2025 04:09 PM
لم تعد المأساة تُفجّر الدموع، بل تفتّش فينا عمّا تبقى من إنسان. فثمة تحوّل زاحف، بطيء كقضم الصدأ، يجعل الإنسان لا يتفاعل مع الألم بل يُفهرسه، لا يتأثر بالحريق بل يُحلّله، حتى باتت الكارثة تُستهلك كما تُستهلك النشرة الجوية: رقمًا، وتوقعًا، ثم لا شيء.
ما عاد الإنسان يبكي من مشهد طفل يُنتشل من تحت الركام، بل يُسارع إلى هاتفه ليبحث: أين وقعت هذه الحادثة؟ وهل تستحق أن تُشارك؟ لم تعد الدماء تلوّن الضمير، بل تزيّن المحتوى. حتى الألم، صار يتنافس على الصدارة، فإن لم يكن جديدًا، فلا أحد يسمعه.
أما المثقف، فقد دخل في تفاهم صامت مع الواقع. صار يكتب عن الألم كما يكتب عن الرماد، يختار المفردة الأكثر أناقة، لا الأكثر صدقًا. يلوذ بالرمز كي لا تُجرحه الحقيقة، ويُحيل الدم إلى استعارة بلاغية كي لا يُحاصر بالوقائع. هكذا يتخفف المثقف من مسؤوليته الأولى: أن يقول ما لا يُقال، لا أن يجمّله.
السياسي أكثر براعة، لا يرى في المأساة دمًا، بل فرصة تفاوض، أو لحظة ترويج. يعرف تمامًا متى يُدين، ومتى يصمت، ومتى يعلن التضامن المبرمج. المأساة عنده ليست مأساة إلا إذا خَدَمت جدول مصالحه. وكل دمٍ لا يصبّ في صالح الميزان الجيوسياسي، يُصنَّف “خسائر جانبية”.
أما أصحاب المصالح، فهم الطائفة التي لا يخجلها شيء. لديهم قدرة خارقة على تحويل الخراب إلى خطة، والجنازة إلى مشروع. في زمنهم، لا يُبنى على الدمار إلا الربح، ولا يُعقد مؤتمر إنساني إلا تمهيدًا لعقود إعادة الإعمار. لا لغة لديهم سوى الأرقام، ولا قلب إلا محشو بالفواتير.
وفي زحمة كل هذا، تتعاظم الكوارث… ولا أحد يصرخ. تتكرر المجازر… ولا أحد ينهض. كأن هناك صفقة غير معلنة بين البشر، مضمونها أن نعيش رغم كل شيء، دون أن نشعر بشيء.
والخطر ليس في القتل، بل في التكيّف معه.
في أن نصحو على صور الموت، ونرتب مواعيدنا بعد ذلك، كأن شيئًا لم يكن.
في هذا السياق المروّع، نستحضر ما قاله ألبير كامو:
“أسوأ الأوبئة ليست التي تفتك بالجسد، بل تلك التي تقتل القدرة على التعاطف.”
وهذا الوباء الأخلاقي هو ما يفتك بعصرنا: بلادة في وجه الجحيم، حياد بارد أمام الموت الجماعي، ودهشة ميتة أمام المأساة المتكررة.
أليس هذا أسوأ من المأساة نفسها؟
أن تصبح مألوفة؟
أن يتساوى وقعها في الروح مع إعلان عن تخفيضات موسمية؟
الإنسان لا يُقاس بما يَعرف، بل بما يشعر. والمثقف لا يُقاس بما يكتب، بل بما يرفض. والسياسي لا يُحاسب فقط على ما يفعله، بل على كل ما سكت عنه. لأن الصمت أحيانًا، خيانة كاملة.
إن لم نعد نرتجف أمام المأساة، فربما لم نعد أحياء.