حين تصبح الكفاءة أنثى: قراءة في جوهر التمكين
منى نجم
23-07-2025 11:10 AM
ليست القضية أن تُمنح المرأة صوتًا، بل أن يُنصت لها وهي تتكلم. تلك الجملة تكثّف فلسفة التمكين الحقيقي، وتفتح بابًا للتأمل في جوهر التحول الذي يشهده العالم، حين تتجاوز المرأة أدوارها التقليدية لتصبح شريكة في القرار، وصانعة للتغيير، ومهندسة للمستقبل.
تمكين المرأة ليس امتيازًا يُمنح، بل استحقاقًا تُنتزع شروطه بتراكم الوعي والمعرفة والكفاءة. إنه تحوّل في البنية الذهنية قبل أن يكون تحوّلًا في المواقع والسلطة. وفي عالم لم يتخلص بعد من رواسب الإقصاء والتمييز، يبقى تمكين النساء معيارًا لنضج المجتمعات، ومؤشرًا حقيقيًا على سلامة بنيتها الأخلاقية والمؤسسية.
حين نتحدث عن التمكين، فإننا لا نشير فقط إلى ارتفاع أعداد النساء في البرلمانات أو تقلّدهن مناصب عليا، رغم أهمية تلك المؤشرات، بل نتحدث عن قدرة النساء على التأثير في صناعة القرار، في أن يكون لوجودهن معنى، ولفكرهن أثر، ولدورهن ضرورة.
فالتمكين لا يُقاس بالعدد بل بالجدارة، ولا يتحقق بالصوت فقط، بل بالفعل والتأثير.
التجربة أثبتت أن المرأة حين تُمنَح فرصة التمكين، لا تكتفي بالنجاح الفردي، بل تصنع النجاح الجماعي. فهي لا ترتقي وحدها، بل تأخذ بيد أسرتها، وتغرس الثقة في بناتها، وتبني اقتصادًا أكثر عدالة، ومجتمعًا أكثر توازنًا. تمكين المرأة يعني تمكين الأسرة، وتمكين المجتمعات من تجاوز هشاشتها نحو القوة والاستقرار.
في العالم العربي، تمضي نساء كثيرات في طريق شاقّ من أجل انتزاع هذا التمكين، وسط تحديات تتراوح بين العادات الراسخة والتشريعات المُقيّدة والبيئات الاقتصادية غير المنصفة. لكن مع ذلك، نشهد اليوم موجة جديدة من النساء اللاتي تجاوزن فكرة "المطالبة بالحق" إلى ممارسة "الحق بالفعل"، واستثمرن في التعليم والمعرفة والريادة، لتأكيد أن الكفاءة لا جنس لها، وأن التميّز حين يتجسّد في امرأة، لا ينبغي أن يُستقبل بالدهشة، بل بالاحترام.
إن المجتمعات التي تريد أن تُحدث تغييرًا حقيقيًا، لا بد أن تُعيد صياغة علاقتها بالمرأة، لا باعتبارها تابعًا، بل شريكًا كاملًا، له ما للرجل من حقوق وواجبات، ولديه ما يكفي من القدرات ليكون في الصفوف الأولى من صنّاع القرار والتأثير.
وآن الأوان أن نتوقف عن مساءلة المرأة عن جدارتها، وأن نُسائل المؤسسات والسياسات التي تعيق صعودها أو تحاصر طموحها.
تمكين المرأة لا يحتاج إلى شعارات، بل إلى إرادة سياسية وتشريعية وثقافية عميقة، تترجم المساواة إلى واقع ملموس، وتكسر الحواجز التي لا تزال قائمة في سوق العمل، وفي الفضاءات العامة، وفي العقل الجمعي ذاته.
وهذا التمكين لا يتحقق في فراغ، بل يتطلب أنظمة تعليمية تُرسّخ المساواة، وإعلامًا يعيد تشكيل الصورة النمطية للمرأة، وبيئة قانونية وتشريعية تحميها من العنف والتمييز، وتضمن حقها في الاختيار والمشاركة والتمثيل.
الكفاءة حين تصبح أنثى، لا تطلب استثناء، بل تطلب اعترافًا. وكل امرأة مُمكَّنة هي عنوان على إمكانية أخرى لهذا المجتمع، على مستقبل أكثر عدلًا، وعلى إنسانية أكثر اكتمالًا.