الرهن العقاري مقابل الخدمة العامة .. قراءة قانونية متوازنة
المحامي اسامة البيطار
23-07-2025 08:48 PM
في الأيام الأخيرة، عاد إلى السطح مقترح إدراج بند "الرهن العقاري" كشرط لتوصيل التيار الكهربائي أو ما يشابه هذا الوصف. قد يبدو الأمر تفصيلاً إدارياً، لكنه في الحقيقة يُمثل تحولًا جوهريًا في العلاقة بين المواطن والخدمة العامة، ويفتح بابًا حساسًا حول حدود السلطة التعاقدية لشركات الخدمات في مواجهة الملكية الخاصة المصونة دستوريًا.
الرهن العقاري، كما يعرفه القانون المدني الأردني (المواد 1322 وما بعدها)، هو حق عيني لا ينعقد إلا بإرادتين واضحتين، ضمن عقد محدد القيمة، مسجل لدى دائرة الأراضي والمساحة وفقًا لأحكام قانون الملكية العقارية رقم 13 لسنة 2019. فلا يمكن فرضه ضمن عقود الإذعان، ولا يُعد ساريًا أو نافذًا تجاه الغير ما لم يُسجّل. فكيف يمكن حينها إدماجه كشرط إداري في عقد خدمة كهرباء لا تتوافر فيه هذه الضمانات القانونية والشكليات؟
إن ما يُقلق فعلاً ليس مجرد المقترح، بل المنهجية القانونية التي يقترح بها. فربط الحصول على خدمة عامة أساسية كالكهرباء بتنازل جزئي عن الحق في الملكية، يُمثل قفزًا فوق قواعد التوازن العقدي، ويُحوّل الخدمة من حق تنظيمي إلى أداة ضغط قانوني. والأخطر من ذلك، أنه قد يُشكّل سابقة تُغري جهات أخرى بتكرار النموذج: فهل ننتظر أن تُطالب شركات المياه أو الاتصالات برهون مشابهة؟ وهل نصبح أمام شبكة خدمات عامة مشروطة بسلطة حجز عقاري خفية؟
ومع أن هذا التوجه مرفوض قانونيًا ودستوريًا – استنادًا للمادة 11 من الدستور التي تحظر نزع الملكية إلا للمنفعة العامة وبقانون وتعويض عادل – إلا أن من واجبنا أيضًا أن نُقر بوجود اختلال تشريعي حقيقي يدفع بعض الشركات إلى التفكير بهذه الأدوات.
ويجدر في هذا السياق التذكير بأن البيئة التشريعية الحالية تعاني من خلل تراكمي في أدوات التحصيل المدني. فقد شهدنا في السنوات الأخيرة تعديلات متتالية على قانون التنفيذ حدّت بشكل كبير من صلاحية حبس المدين، لا سيما في القضايا المالية، إضافة إلى صدور أكثر من قانون للعفو العام أدى إلى إسقاط ديون أو تأجيل تحصيلها دون تعويض قانوني حقيقي للدائنين، ناهيك عن رفع الحماية الجزائية عن أدوات الوفاء كالسندات والشيكات. هذه السياسات، على الرغم من نواياها الاجتماعية، أدّت عمليًا إلى إضعاف قدرة شركات الخدمات على استرداد حقوقها ب...
ومن منطلق عملي اليومي في قطاع التحصيل القانوني، وتمثيلي لعدد من شركات الخدمات العامة الكبرى أُدرك تمامًا حجم التحديات التي تواجه هذه الجهات في تحصيل مستحقاتها ضمن الإطار القانوني الحالي. فقد أدّت التعديلات المتلاحقة على قانون التنفيذ، ورفع الحماية الجزائية عن أدوات الوفاء، إلى إضعاف فعلي لأدوات التحصيل التقليدية، ما دفع بعض الشركات للبحث عن بدائل قد لا تكون متوافقة دائمًا مع المبادئ الدستورية والتعاقدية المستقرة.
لكن هنا تكمن مسؤولية الدولة. فحل هذه المعضلة لا يكون بفرض الرهن، بل بإعادة تصميم التشريعات على نحو يُحقّق التوازن بين حماية الملكية وحق الشركات في استرداد ديونها.
ما الحل؟ لدينا خيارات متعددة: عدادات مسبقة الدفع كما هو معمول به في عدد من الدول ومنها مصر، أو كفالات شخصية أو بنكية، إنذارات رسمية، وتصعيد منظم في مسارات التحصيل. كل ذلك ممكن دون المساس بجوهر الملكية العقارية أو خلق سابقة قانونية مقلقة.
الرسالة التي يجب أن نوجّهها أن المواطن ليس رهينة، والشركات ليست خصمًا، بل نحن جميعًا بحاجة إلى تشريع متوازن يحمي الحقوق ويضمن الاستمرارية. أما الرهن مقابل الكهرباء، فهو قفزة خارج النص، وسابقة يجب أن تُرفض بكل وضوح، لا كتحفظ عاطفي، بل كتحليل قانوني مسؤول يحمي الدولة والمواطن على حد سواء