حين تصبح الدولة فكرة لا واقعاً
فراس النعسان
25-07-2025 12:57 AM
في كثير من الأحيان، تبدو الدولة في منطقتنا كأنها وعد مؤجل أو تجربة لم تكتمل. لا هي تجسدت كما يجب، ولا الثورة بلغت أهدافها، ولا المواطن استطاع أن يتحرر من موقع المراقب. نعيش ما يشبه العرض المسرحي المتكرر: ذات النص، ممثلون حفظوا أدوارهم، لكن الجمهور تغيّر مرارًا، وهو ينتظر دومًا نهاية مختلفة.
في هذا السياق، لا يمضي الزمن نحو التقدم، بل يدور في حلقة مفرغة. تصبح السياسة قصة تُروى أكثر منها عقداً اجتماعياً فاعلاً، ويغدو المواطن مجرد رقم في معادلة لا يُطلب منه إلا الصمت حينًا، والتصفيق حينًا آخر.
في الأصل، كما تصوّرها فلاسفة التنوير، كانت الدولة مشروعًا للتعاقد والكرامة والمشاركة. لكن الواقع في كثير من الدول العربية يسير في اتجاه مختلف، حيث تنفرد السلطة بكتابة التاريخ، وتوزيع المستقبل كما توزع الامتيازات أو التصاريح.
في المؤسسات، يُكرّس الولاء قبل التفكير. في الإعلام، يُحتفى بالاستقرار أكثر مما يُناقش الواقع. المواطن في هذه البيئة لا يُنظر إليه كفاعل، بل كمراقَب، وجوده مشروط بخضوعه.
وكما أشار ميشيل فوكو فإن السلطة لا تمارس قوتها فقط عبر القمع، بل أيضًا عبر صياغة "الحقيقة" نفسها. وهنا تكمن الخطورة: حين يتحول الخطاب الرسمي إلى مرآة مشوّهة، تُعتم على الواقع وتُعيد تأليفه بلغة لا تحتمل النقاش. فتصبح المطالبة بالحقوق تهديدًا، والنقد مغامرة غير محسوبة.
ومع الوقت، لا يعود القمع بحاجة إلى أدوات عنيفة؛ إذ تتحول المراقبة إلى سلوك ذاتي. يخشى الناس التعبير، ليس لأنهم مهددون بشكل مباشر، بل لأن الخوف أصبح جزءاً من الوعي العام.
هنا نستعيد فكرة أنطونيو غرامشي عن "الهيمنة" التي تُفرض عبر الإقناع لا العنف. حين يقتنع الأفراد أن الواقع هو قدر لا يمكن تغييره، وأن البدائل وهم، يصبح الرضى أمرًا مفروضًا لا مختارًا. ويُصبح التغيير ترفًا مؤجلًا إلى إشعارٍ غير معلوم.
المشكلة، إذن، ليست في غياب الديمقراطية كآلية، بل في تآكل الإيمان بها. نخشى الحرية أحيانًا أكثر مما نرغب فيها. نحتفل بالانتخابات، لكننا نقلق من نتائجها. نطالب بالإصلاح، ونحن غير واثقين بأن أصواتنا تُحدث فرقًا.
هنا تتحول السياسة إلى مشهد أدائي أكثر منها مشاركة حقيقية. المواطن لا يُربّى على الشك والسؤال، بل يُعوّد على التأقلم والتصفيق. وهكذا، تتحول الدولة من مؤسسة تخدم شعبها، إلى صورة تُعيد إنتاج ذاتها ولو تآكل جوهرها.
في نهاية المطاف، يغدو الوطن نصاً نُطالب بقراءته كما هو، لا إعادة كتابته. وتغدو الدولة استعارة كبرى: نسمع عنها في الخطابات، نراها في الأوراق الرسمية، لكن أثرها لا يصل دائمًا إلى حياتنا اليومية.