يا يموت الراعي يا تفنى الغنم
السفير ماهر لوكاشه
25-07-2025 08:59 PM
يا يموت الراعي يا يفنى الغنم… عبارة مجازية تلخص المأزق القاسي الذي وصلنا إليه اليوم، والمقصود هنا بالراعي حركة حماس، وبالغنم الشعب في غزة. هذا التعبير ليس انتقاصاً ولا تقليلاً من شأن أحد، بل توصيف رمزي لحقيقة مرة: إسرائيل نجحت في حشر الأمتين العربية والإسلامية في زاوية ضيقة، حيث يبدو الخيار المطروح وكأنه بين التضحية بالراعي أو إفناء الغنم.
الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لم يولد اليوم، بل هو امتداد لمخطط إسرائيلي طويل الأمد، تأسس على خطين متوازيين: الأول يقوم على اغتصاب الأرض وتشريد أهلها بكل الوسائل، من تهجير وقتل وحروب ومجازر واستيطان ممنهج، والثاني يركز على بناء شبكة نفوذ قوية داخل مراكز القرار في أوروبا والولايات المتحدة، والسيطرة على مفاصل المال والإعلام والسياسة لضمان دعم غير محدود لدولة الاحتلال في كل الظروف، حتى ولو كان ذلك على مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة».
منذ وعد بلفور عام 1917، ثم الانتداب البريطاني، وصولاً إلى النكبة في 1948 وما تلاها من حروب واتفاقيات ومؤتمرات ووعود بالسلام، كانت النتيجة واحدة: مزيد من التوسع الإسرائيلي، مقابل تراجع الفعل العربي والإسلامي وانحساره إلى ردود أفعال متفرقة. ومع كل عدوان جديد، يتجدد المشهد نفسه وكأننا أمام قدر محتوم. اليوم، وفي ظل الحصار الوحشي والإبادة الممنهجة في غزة، تحاول إسرائيل فرض معادلة جديدة على الجميع: إما إسقاط حركة حماس، أو إفناء الشعب هناك، في استغلال واضح لمعاناة المدنيين كسلاح للابتزاز السياسي.
المخطط الإسرائيلي منذ نشأته لم يكن استجابة عفوية لمحنة اليهود في أوروبا، بل كان مشروعاً استعمارياً منظماً هدفه ترسيخ كيان يهودي على حساب الشعب الفلسطيني. وقد حظي هذا المشروع بدعم غربي غير محدود، بدأ بأوروبا التي رأت في الهجرة اليهودية إلى فلسطين حلاً عملياً للتخلص من «المسألة اليهودية» داخل أراضيها، ثم تعزز بالدعم الأمريكي الهائل سياسياً ومالياً وعسكرياً، حتى أصبحت إسرائيل القوة المدللة في المنطقة، المحمية بالفيتو في مجلس الأمن وبمليارات المساعدات.
تطالب إسرائيل العالم بأسره بأن يتجاوز أي نقد أو محاسبة بذريعة هجوم السابع من أكتوبر 2023، بينما يُطالب الفلسطينيون والعرب والمسلمون بأن ينسوا 77 عاماً من القتل والتهجير والمجازر. هذا الكيل بمكيالين جعل الاحتلال أكثر جرأة، وحوّل غزة إلى ساحة مفتوحة للدمار والتجويع والإبادة، في حين يكتفي العالم بالتفرج أو بإصدار بيانات لا تُغيّر شيئاً على الأرض.
العرب والمسلمون لم يقبلوا يوماً بشرعية هذا الاحتلال، لكن رفضهم ظل بلا خطة واضحة. فشلت مشاريع الوحدة التقليدية، بينما استسلم الموقف العربي لدوامة التشرذم والانقسام. لم تعد هناك رؤية مشتركة للمصالح العليا ولا مشروع سياسي أو اقتصادي جامع. والحقيقة أن الزمن تجاوز الشعارات؛ المطلوب اليوم ليس خطابات الغضب ولا الاجتماعات البروتوكولية، بل بناء اتحاد عربي وإسلامي حديث، يشبه الاتحاد الأوروبي في آلياته ومرونته، يراعي خصوصيات الدول لكنه يعمل ككتلة مصالح متماسكة، قادرة على ممارسة ضغط سياسي واقتصادي وإعلامي حقيقي.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل قلب القضية وامتحان أخلاقي للعالم. كل يوم تتكشف فظاعات الإبادة والتجويع، بينما تُستهدف كل محاولة مقاومة بتهمة الإرهاب، ويُعاقَب المدنيون بعقوبات جماعية. وكأن الاحتلال يقول للعرب والمسلمين: إما أن تسكتوا عن ذبح الراعي، أو نحن نمحو الغنم من الوجود.
المعادلة قاسية، لكنها ليست قدراً محتوماً. المشروع الإسرائيلي، الذي استمرأ العمل الطويل والصبر الاستراتيجي، لا يمكن مواجهته بردود أفعال متقطعة. القوة لا تُقابل إلا بالقوة، والسياسة لا تُكسر إلا بسياسة مضادة. الغرب لا يحترم إلا منطق القوة، وهذه القوة لا تعني العنف وحده، بل قوة الموقف، وقوة التحالفات، وقوة الاقتصاد، وقوة الإعلام، وقوة القانون.
إن عبارة «يا يموت الراعي يا يفنى الغنم» جرس إنذار لا تعبير عن استسلام. هي دعوة إلى يقظة عربية وإسلامية، وإلى إعادة النظر في طريقة إدارة الصراع. فإذا بقيت الأمة أسيرة التشرذم والارتجال، فإن الاحتلال سيواصل قضم الأرض وتفريغها من سكانها. أما إذا تحولت الغضبة الشعبية إلى مشروع سياسي جامع، فإن المعادلة يمكن أن تنقلب لصالح الحق الفلسطيني. فالشعوب التي صمدت سبعة وسبعين عاماً تحت النار لن يعجزها أن تكتب فصلاً جديداً من الكرامة والحرية.