في الجنوب السوري، لا تنفجر البنادق فقط، بل تنفجر الذاكرة… تتصدّع كأنها ألواح طين هشيم، كُتبت عليها قصيدة وطن، ثم محيت بالماء. هناك، لا نسمع دويّ الرصاص بقدر ما نسمع صدى السؤال المُعلَّق: من يملك سوريا؟ أو قل، من بقي ليُفكك هذا الركام ويعيده اسماً يصلح لنداء الأم في المساء؟
ما يحدث في السويداء وسواها ليس “اضطراباً أمنياً” كما يحب الخطاب الرسمي أن يُعقّم الألم، بل تآكلٌ بطيءٌ لفكرة الدولة نفسها. إنه جسد يتآكله النسيان، ووعي يُقصى من ذاته، حتى لا يتعرف السوري على نفسه إنْ عبر مرآة الجنوب. هناك، لا تمشي على الأرض، بل على جلد ذاكرة لم تعد تقوى على تخزين الألم… فتبصقه في الشارع كجثة بلا ملامح.
السويداء لم تكن يومًا نقطة على الهامش، بل شرفةً تطل منها الجغرافيا على المعنى. في الجبل كانت الحكمة تكتم الصراخ، وكانت العزلة ملاذاً للكرامة. أما اليوم، فالجبل لم يعد حكيمًا، بل محاطًا بالخذلان، مجروحًا بعصبيات المدن، ممزقًا على مذبح التحالفات الضيقة، التي لا تتسع لوطن.
كل رصاصة في الجنوب ليست فقط صوت موت، بل إعلان إفلاس سياسي. كل اشتباك عشائري هو تذكير صارخ بأن الدولة لم تعرف كيف تكون أمّاً، بل اختارت أن تكون شبحًا يُطلّ في البيانات ولا يظهر في الحياة. ما يجري ليس تمردًا على النظام، بل انهيار لما تبقّى من المعنى المشترك.
تُعاد سوريا اليوم إلى “الحضن العربي” كأننا نعيد الغائب من المنفى إلى بيت لم يعد قائمًا. لكن كيف تحتضن وطنًا بلا أذرع؟ كيف تُدمج جسدًا فقد أطرافه؟ الذين أعادوا دمشق إلى الطاولة، لم يسألوا عمّا يجري في الشارع، بل اكتفوا بأن تكون الصورة قابلة للعرض. لكن الجنوب لا يخضع للكاميرا. الجنوب لا يرتّب ثيابه. إنه مرآة الروح حين تنكسر فجأة.
وفي الخلفية، تمرح إسرائيل كقطٍّ في بيت مهجور. تدخل وتخرج دون أن تثير ذرة من السيادة المتآكلة. لم تعد الغارات مفاجِئة، بل أصبحت جزءًا من مناخٍ دائم، كأنها نشرة جوية تُقرأ كل صباح. أما واشنطن التي تتحدث عن “إعادة دمج” سوريا، فإن الجنوب السوري يكتب بيان الطرد، لا بيان الاندماج.
الفوضى في الجنوب لا تخص دمشق وحدها، بل تخص خريطة بأكملها خُيِّطت بخيوط أوهى من رغبة. الأردن يسمع الارتجاج على حدوده، ولبنان يستعيد حمى الحرب من رائحة دخان بعيدة. والمنطقة كلها تعود إلى النقطة صفر، كما لو أن التاريخ لم يكن إلا مقدمة لعاصفة لم تأتِ بعد.
في السياسة، كما في الفن، التفاصيل تفضح الكذب. والجنوب السوري، رغم صغر مساحته، يكشف زيف الرواية الكبرى. تقول دمشق إنها تعود، لكن الجنوب يقول إنها لم تغادر الحريق أصلًا. وتقول العواصم العربية إن الاستقرار قادم، لكن جسد السويداء يردّ: ليس بالنيات تُطفأ الحرائق، ولا بالمصافحات تُبنى الأوطان.
كما قال هيغل: «ما هو عقلاني يصبح واقعيًا»، لكن سوريا تكذب على هيغل. في سوريا، ما هو معقول يُغتال، وما هو واقعيّ يهرب. الجنوب ليس مجرد ساحة معركة، بل مسرح ميتافيزيقي لانهيار التصوّرات. حيث لا يبقى سوى القبيلة، والسلاح، والظلّ الطويل للخذلان.
وهنا، نعود إلى السؤال الأصلي: من يملك سوريا اليوم؟
لا أحد.
لا النظام، وقد خسر الإجماع الوطني.
ولا المعارضة، وقد ذابت في هشيم الولاءات.
ولا العرب، وقد أعادوا كرسياً لا دولة.
ولا الغرب، وقد توقّف حتى عن طرح الأسئلة.
حتى إسرائيل، التي تتنقل على الحواف، لا تريد ملكاً، بل فراغاً.
سوريا الآن ليست مملوكة… بل مُستباحة.
كأنها جغرافيا تنتظر صاحبًا جديدًا، أو روحًا قديمة تعود من الرماد.
ما نراه في الجنوب ليس أزمة محلية، بل مرآة لحقيقة عربية كاملة: أننا دخلنا عصر الدول بلا أصحاب… والأوطان بلا مشروع.
ربما آن الأوان أن نُعيد تعريف ما تعنيه “العودة إلى الحضن”، لأن ما نراه ليس حضنًا، بل فراغٌ يبتلع الجميع. قطيع بلا راعٍ، وراية بلا خيمة، وصوت بلا معنى.
إنها لحظة عُري كامل…
لحظة لا تحتاج إلى بيانات ختامية، بل إلى فلاسفة.