اقتصاد الحرب: كيف تفوّقت روسيا على الغرب في الصناعات العسكرية؟
م. عمار آل خطّاب
31-07-2025 01:52 AM
عندما اندلعت الحرب الروسية-الأوكرانية في شباط 2022، لم يتوقع كثيرون أن تستمر بهذا الزخم ولفترة طويلة، وأن تتحوّل إلى حرب استنزاف تعيد تشكيل ملامح النظام الدولي. فالصراع لم يعد مجرد نزاع حدودي بين دولتين، بل تحوّل إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين روسيا والغرب، بقيادة الولايات المتحدة.
ما يدفعني للكتابة في هذا الموضوع ليس فقط متابعتي للأحداث من منظور سياسي أو إعلامي، بل لتسليط الضوء على أهمية الصناعات العسكرية الوطنية، وذلك من واقع تجربة مهنية مباشرة في قطاع الصناعات العسكرية.
فقد عملت لسنوات في مركز الأردن للتصميم والتطوير (كادبي) سابقًا، الذي يُعدّ من أبرز مؤسسات التصنيع الدفاعي في المنطقة، ومن المبادرات العربية الجادة لتوطين المعرفة الدفاعية وبناء قاعدة صناعية متقدمة.
هذه التجربة منحتني فهمًا عميقًا لآليات الإنتاج العسكري، من التصميم، إلى التصنيع، إلى سلسلة التوريد، ومكّنتني من متابعة التحولات العالمية في هذا القطاع ليس كمتابع فقط، بل كمن خَبِر البيئة الصناعية من الداخل. مما يُتيح لي تناول هذا الملف بمنظور عملي وتحليلي في آنٍ معًا.
في هذا المقال، أسعى للإجابة عن سؤالين جوهريّين:
هل استطاعت روسيا أن تتفوّق فعليًا على الغرب في كميات الإنتاج العسكري؟
وهل أصبحت آلة التصنيع الروسية أكثر استجابة ومرونة من نظيرتها الغربية؟
الدعم الغربي لأوكرانيا: "حرب بالوكالة"؟
منذ الأيام الأولى للحرب، تدفّق الدعم الغربي نحو أوكرانيا بمستويات غير مسبوقة:
أسلحة ثقيلة، أنظمة دفاع جوي، ذخائر، تدريب، معلومات استخباراتية، ودعم مالي مباشر.
ورغم أن هذا الدعم لم يتضمّن تدخلًا عسكريًا مباشرًا، إلا أن طبيعته واتساعه جعلا الروس يرون أن هذه ليست حربًا ضد كييف فقط، بل ضد منظومة غربية تسعى لإضعاف روسيا وتحجيم نفوذها عالميًا.
بداية الحرب: صورة مهتزة للجيش الروسي
في الأشهر الأولى من الحرب، بدت روسيا وكأنها تعاني ميدانيًا. تباطؤ في التقدم، مشاكل لوجستية، خسائر مفاجئة في الآليات والجنود.
هذا الأداء، الذي لم يكن متوقعًا من جيش تُحيطه هالة تاريخية من القوة، أعطى انطباعًا لدى كثيرين في الغرب بأن الجيش الروسي لم يعد بتلك الهيبة، وأنها فرصة نادرة لـ"ضرب روسيا من الداخل" عبر حرب استنزاف طويلة الأمد.
التحوّل الروسي: من عملية محدودة إلى تعبئة كبرى
لكن روسيا لم تبقَ على هذا الحال طويلًا. أدركت موسكو أن ما يجري ليس صراعًا على أوكرانيا فحسب، بل محاولة غربية استراتيجية لإضعاف روسيا على المدى الطويل.
ردّ الفعل الروسي جاء على عدة مستويات:
• إعلان التعبئة الجزئية،
• تركيز إعلامي داخلي على أن الحرب "وجودية"،
• إعادة تفعيل القاعدة الصناعية الدفاعية.
قفزة في الصناعات العسكرية الروسية
بفعل هذه التعبئة، أعادت روسيا تشغيل عشرات المصانع، وأطلقت خطوط إنتاج جديدة للأسلحة والذخائر، ووسّعت من إنتاج المسيّرات، خاصة بالتعاون مع إيران.
وبحكم خبرتي في هذا المجال، أستطيع القول إن ما قامت به روسيا يُعدّ مثالًا تطبيقيًا على ما يُعرف بـ "الاقتصاد الحربي الكامل".
وقد أشارت تقارير غربية موثوقة (مثل The Economist عام 2024) إلى أن روسيا تنتج حاليًا حوالي 3 ملايين قذيفة مدفعية سنويًا، مقارنة بـ 1.2 إلى 1.7 مليون قذيفة تنتجها أوروبا والولايات المتحدة مجتمعتين، مما يعني أن روسيا تنتج أكثر من 3 أضعاف ما ينتجه الغرب في هذا المجال.
فجوة في الجاهزية الصناعية الغربية
رغم التفوق الاقتصادي والتقني الواضح للغرب، إلا أن أنظمته الصناعية لم تكن مهيأة لحرب طويلة:
• معظم الدول الغربية اعتمدت لعقود على الإنتاج حسب الاحتياج والطلب (Make-to-Order).
• خُفّضت القدرات التصنيعية بعد الحرب الباردة.
• سلاسل التوريد أصبحت معولمة ومعقدة، ومعرّضة للانقطاع.
في المقابل، أعادت روسيا تفعيل نموذج "اقتصاد الحرب"، المعتمد على الإنتاج المستمر والتعبئة الصناعية المركزية، مما منحها أفضلية تكتيكية ولوجستية في أرض المعركة.
تفوّق كمي أم استراتيجي؟
الإجابة المتوازنة تقول:
روسيا تفوقت كميًا على الغرب في إنتاج الذخائر والأسلحة التقليدية خلال السنوات الأولى من الحرب ولا زالت. وهذا ألتفوق ألكمّي انعكس تفوقاً ميدانياً وبالتالي سياسياً.
وفي حروب الاستنزاف الطويلة، الكمّ قد يحسم، خاصة إن ارتبط بالعقيدة الروسية التي تركز على الاستخدام المكثف للنيران قبل التحرك البري.
تجربة مركز الأردن للتصميم والتطوير:
نواة وطنية للصناعات العسكرية الأردنية
في خضم هذا المشهد العالمي، تتأكد أهمية امتلاك الدولة الاردنية لقدرات صناعية دفاعية محلية.
وهنا تبرز رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله بإنشاء مركز الاردن للتصميم والتطوير (كادبي) كخيار استراتيجي مبكر وكان ذلك في العام 1999.
فهذا المركز لم يكن مجرد مشروع تقني، بل منظومة وطنية تهدف إلى:
• تلبية احتياجات القوات المسلحة من مصادر محلية،
• توطين الصناعات الدفاعية،
• نقل المعرفة والخبرة،
• وتطوير قدرات تصديرية عالية القيمة.
ومن واقع عملي السابق في كادبي وإدراكي لأهميته، أجد من الواجب الاستمرار بدعم هذه المؤسسة الوطنية بشتى السبل. وهنا لا بد من الإشارة إلى الدور المحوري الذي قامت به القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي ولا تزال في احتضان ودعم المركز منذ تأسيسه، وتوفير البيئة ألمُمَكِّنة لتطوير قدراته بما يسهم بتعزيز الأمن ألوطني، وتوفير بدائل محلية، وتنمية قدرات بشرية وهندسية متميّزة.
خلاصة: من يملك القدرة على التصنيع… يملك زمام المعركة
الحرب في أوكرانيا أعادت تعريف قواعد القوة، ففي حروب الاستنزاف الطويلة، لم تعد التكنولوجيا وحدها كافية، بل أصبحت القدرة على الإنتاج المستدام تحت الضغط هي الفاصل بين من يصمد… ومن ينهار.