غزة .. بين هدنةٍ منتظرة وسقف ينهار
فراس النعسان
31-07-2025 02:53 PM
ثمة مفارقة تشبه مرآة مكسورة: يُستجدى وقف النار كما يُستجدى الهواء، لكن ما من أحد يجرؤ على إدانة الحريق.
غزة لا تنتظر هدنة، بل تنتظر أن تُعيد للعالم عينيه. ففي كل جولة قصف، لا تُقصف مدينة بل تُقصف الحقيقة، ويُعاد تشكيل المعايير حتى يغدو القاتل خبيراً أمنياً، والضحية رقماً طائشاً في بيان أممي خجول.
الهدنة هنا ليست اتفاقاً بين طرفين، بل رشوة مؤقتة للسكوت عن المجزرة. وما يُسمّى “وقف إطلاق نار” ما هو إلا استراحة للقاتل كي يُعدّل مرماه، ويُصلح بندقيته، ويبتكر كذبة جديدة أمام عدسات العالم.
إنّ أكثر ما يوجع في مشهد غزة اليوم ليس الدمار وحده، بل ذلك الصمت الهائل الذي يرتدي هيئة التوازن. المجتمع الدولي، هذا المصطلح الضبابي، يقف على مسافة واحدة من الجلاد والضحية، ويظن أن الحياد في الجريمة ليس تواطؤاً. لكن الحياد في الدم، دم الفلسطينيين، هو موت للضمير، وانتحار للعدالة.
تحت سقفٍ ينهار في كل بيت غزّي، تُنهار أيضاً شرعية العالم. يسقط ركام الطوب، ومعه يسقط ركام القيم. هل رأيتم طفلاً يصرخ بلا صوت في سراديب المستشفى؟ هل سمعتم صوت الروح وهي تُقصف مرتين: مرة بالصاروخ، ومرة بالتجاهل؟
البيانات الدبلوماسية لا توقف نزيفًا، والزيارات الرسمية لا تعيد أعضاء مبتورة. وحدها الحقيقة، مهما كانت دامية، يمكن أن تُحدث فرقًا، لكن الحقيقة اليوم عزلاء، تُحاصر مثل غزة، وتُقصف مثل أهلها.
في المقابل، يعيش المحتل لحظة قلق من نوع آخر. لقد بات يدرك أن آلة القوة مهما عظمت لا تهزم فكرة. وأن القبة الحديدية لا تحميه من مرآة الأخلاق حين تُرفع في وجهه. كل صاروخ يُطلق، وكل طفل يُستشهد، يضيف إلى رصيد العزلة، ويخصم من شرعية القوة التي بُنيت على الخراب.
أما العرب، فهم في معادلة الضغط الناعم، بين وجع الشعوب وأوزان السياسة. يريدون أن يقولوا كلمة لا تُغضب، وأن يُدينوا بلا أن يُعاقبوا، فتأتي إدانتهم كحبر على شفاه جافة، لا يرتوي بها أحد.
غزة اليوم ليست مجرد قضية، إنها سؤال في وجه العالم: من أنتم؟ وأين كنتم؟ ولماذا ينام ضميركم على صراخ الأطفال كأنه موسيقى بعيدة؟
في هدنة تُستجدى، وسقفٍ ينهار، نقرأ مصيرًا بأحرف سوداء: إن لم تكن الإنسانية موقفاً، فهي لا شيء. وإن لم تكن العدالة جريئة، فهي كذبة متقنة.