رأي محكمة العدل الدولية بشأن المناخ .. خطاب قانوني بلا أنياب أم نقطة تحوّل؟
د. محمد مصطفى عيادات
31-07-2025 07:36 PM
في خطوة وصفت بأنها تاريخية، أصدرت محكمة العدل الدولية في 23 يوليو/ تموز 2025 رأيًا إستشاريًا بشأن التغير المناخي، لتدخل بذلك رسميًا على خط المواجهة القانونية مع أزمة العصر، رأيٌ لا يحمل صفة الإلزام، لكنه يحمل وزنًا أخلاقيًا وقانونيًا قد يُعيد تشكيل مفاهيم المسؤولية المناخية الدولية ويمنح الدول النامية، ومنها الأردن، أدوات جديدة للمطالبة بالعدالة البيئية والضغط من أجل التزامات أكثر صرامة، بين التطلعات نحو عدالة مناخية شاملة، والواقع المقيّد بحدود القانون الدولي التقليدي، يقف هذا الرأي عند مفترق طرق بين الطموح القانوني والقيود السياسية، فهل يشكّل هذا الرأي تحوّلًا نوعيًا في مسار العدالة المناخية، أم أنه مجرّد خطاب قانوني بلا أنياب؟ بين المأمول والواقع، يحمل الرأي آمالًا كبيرة وتحديات أكبر، في انتظار من يملك الإرادة لتحويله إلى واقع ملموس.
لحظة فارقة في مسار القانون الدولي البيئي...
لا شك أن هذا الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية يشكّل أول تأطير قانوني شامل لإلتزامات الدول المناخية بمنظور مزدوج يجمع بين مبادئ القانون البيئي وحقوق الإنسان، ورغم رمزيته القانونية والأخلاقية، يطرح الرأي تساؤلات جوهرية حول قابليته للتنفيذ، ومدى فعاليته العملية، خاصة في سياقات الدول النامية التي لم تشهد بعد محاكمات ذات طابع مناخي، يناقش هذا المقال مضامين الرأي الإستشاري وأُسسه القانونية، ويحلّل نقاط القوة والقصور، مستشرفًا إستراتيجيات الفرص الممكنه لتفعيله في السياقين الأردني والعربي، في سبيل دعم مسار العدالة المناخية وتوسيع نطاق أدواتها القانونية.
الأساس القانون للرأي ، مرتكزات صلبة... أم خطاب إنشائي؟
في محاولة لرسم معالم إلزامية قانونية لمسؤولية الدول المناخية، بنت محكمة العدل الدولية رأيها الإستشاري على مرتكزات تبدو للوهلة الأولى صلبة، لكنها لا تخلو من طابع إنشائي رمزي، فقد إستندت المحكمة إلى مجموعة من المبادئ المستقرة في القانون الدولي البيئي، يتقدمها مبدأ عدم الإضرار بدولة أخرى أو ما يعرف قانونيا بمبدأ "عدم التسبب في الضرر (No Harm Principle)، الذي يُعد حجر الأساس في تنظيم العلاقات البيئية بين الدول، إذ يُلزم كل دولة بعدم إحداث أضرار بيئية تتجاوز حدودها السيادية، كما إستحضرت المحكمة مبدأ التعاون الدولي، كإطار قانوني يُحتّم على الدول تنسيق جهودها وتبادل المعلومات للتصدي للمخاطر البيئية العابرة للحدود، وهو ما يعكس إدراكًا لأهمية العمل الجماعي في مواجهة أزمة كونية بحجم التغير المناخي، أما الركيزة المفاهيمية الأبرز، فكانت مبدأ "المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة"، الذي يُقرّ بتفاوت قدرات الدول وإسهاماتها التاريخية في التسبب بالتغير المناخي، وهو المبدأ الذي يُشكل العمود الفقري لاتفاقية باريس لعام 2015، ومن خلال هذا المبدأ، تسعى المحكمة إلى تحقيق قدر من العدالة المناخية الإجرائية، دون المساس بالبنى الإقتصادية للدول النامية.
وفي تطور لافت، عمدت المحكمة إلى ربط الأضرار المناخية بحقوق الإنسان الأساسية، وفي مقدمتها الحق في الحياة، والحق في التمتع ببيئة صحية، وهو ما يمنح الإلتزامات المناخية بعدًا قانونيًا وإنسانيًا متقدّمًا، ويؤسس لمقاربة جديدة تدمج القانون البيئي ضمن المنظومة الدولية لحماية حقوق الإنسان. إلا أن هذا التأسيس القانوني، رغم وجاهته، يطرح تساؤلات حقيقية حول مدى صلابته أمام إختبار التفعيل، فهل يكفي التأطير النظري لبناء التزام دولي فعّال، أم أن غياب أدوات التنفيذ وآليات الرقابة سيُفرغ هذه المبادئ من محتواها، لتبقى حبيسة الخطاب القانوني الرمزي؟
إنتقائية قانونية محسوبة: بين الواقعية القضائية والحسابات السياسية...
تكشف القراءة المتأنية لمضمون الرأي الإستشاري أن محكمة العدل الدولية إنتهجت مسارًا انتقائيًا مدروسًا في اختيار المبادئ القانونية التي استندت إليها، إذ اعتمدت على مجموعة محدودة من المبادئ البيئية التي تتمتع بشرعية عرفية مستقرة أو وردت نصًا وبشكل صريح في اتفاقيات دولية متعددة الأطراف، متجنّبة في المقابل الإشارة إلى عدد من المبادئ البيئية المحورية، مثل مبدأ "الملوّث الدافع"، و"الحيطة"، و"العدالة المناخية"، و"التنمية المستدامة"، وهي مبادئ تُعد من الركائز المفاهيمية الأساسية في أدبيات العدالة المناخية والتي يستند إليها الخطاب المعاصر للعدالة المناخية على المستويين الدولي والوطني
ويبدو أن هذا النهج الإنتقائي الحذر لم يكن عفويًا، بل نابعًا من حرص المحكمة على الالتزام بالمبادئ القانونية ذات الشرعية الراسخة لتفادي التوترات السياسية والجدل القانوني، خصوصًا مع الدول الصناعية الكبرى التي قد تعتبر بعض هذه المبادئ تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاقتصادية، لا سيما وأن مبدأ "الملوث الدافع " قد يشكل أساسًا قانونيًا للمطالبة بتعويضات مالية ضخمة من الجهات المسؤولة عن الانبعاثات التاريخية.
لكن هذه الإنتقائية، وإن بدت محسوبة، الا أنها تحمل وجهين متناقضين...
• إيجابيًا، ساعدت في إضفاء طابع قانوني رصين على الرأي، ومنحته شرعية دولية أوسع، مما ساعد في تجنب الانقسامات السياسية الحادة وبناء توافق دولي حول مضامينه.
• وسلبيًا، قلّلت من طموح الرأي كأداة قانونية ثورية، وقيّدت إمكانية استخدامه كأساس للمطالبة بتعويضات من الدول الملوثة، أو لاتخاذ إجراءات قانونية أكثر صرامة في إطار التقاضي المناخي.
في المحصلة، يعكس الرأي توازنًا دقيقًا بين الصرامة القانونية والبراغماتية السياسية، لكنه يثير تساؤلات جدية حول حدود قدرة القضاء الدولي على التقدّم بثبات في ترسيخ مبادئ العدالة المناخية بمعزل عن الحسابات الجيوسياسية.
هل نحن بصدد تشكل عرف مناخي دولي جديد...
رغم أن الرأي الإستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية لا يملك قوة الإلزام القانوني المباشر، إلا أنه يُعد مساهمة محورية في بلورة عرف بيئي دولي ناشئ، وخطوة متقدمة نحو ترسيخ التزامات دولية في مجال المناخ، ويعزز هذا الرأي من مكانة المحكمة كمؤسسة مرجعية فاعلة في تطوير قواعد القانون الدولي البيئي، لا سيما في ظل تصاعد دور الآليات القضائية الاستشارية في تفسير المفاهيم القانونية المستحدثة وتوسيع نطاقها.
ويكتسب الرأي أهميته من كونه يدمج بصورة غير مسبوقة بين القانون البيئي وحقوق الإنسان، بوصفهما حجر الأساس للالتزامات المناخية المستقبلية، ويمكن مقارنة تأثيره المحتمل بما أحدثه رأي المحكمة بشأن مشروعية التهديد باستخدام الأسلحة النووية عام 1996، الذي أسهم في إعادة تعريف بعض مبادئ المسؤولية الدولية، وفي هذا السياق، يُنظر إلى الرأي الجديد كمحاولة جادة لرفع سقف التوقعات القانونية في قضايا المناخ، وتحفيز القضاءين الوطني والدولي على تبنّيه كمرجعية معيارية لترسيخ التزامات بيئية أكثر وضوحًا ومباشرة، تمهيدًا لتحوّله إلى جزء من الأعراف الدولية الملزمة مستقبلًا.
حدود الرأي... بين الطموح والغموض : قراءة نقدية في مكامن القوة والضعف...
رغم الزخم الذي أثاره الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن التغير المناخي، فإن تقييمه بعين تحليلية يُبرز توازنًا دقيقًا بين مكامن القوة ومواطن الغموض والضعف فيه، فمن جهة، يُعد الرأي محطة لافتة في مسار القانون الدولي البيئي وخطوة متقدمة في تقنين العدالة المناخية، حيث أرسى للمرة الاولى أساسًا قانونيًا يربط بين الالتزامات المناخية وحقوق الإنسان، مؤكدًا أن البيئة النظيفة والصحية شرط جوهري للتمتع بحقوق مثل الحياة والصحة والغذاء، وهذا الربط المفاهيمي يمنح الرأي قوة رمزية وقانونية كبيرة، يمكن توظيفها لدعم حركات التقاضي المناخي وتعزيز أدوات المساءلة الدولية، ومن جهة أخرى حوّل الالتزامات المناخية من كونها تعهدات سياسية طوعية إلى واجبات قانونية مستندة إلى اتفاقية باريس ومبادئ القانون الدولي، وفتح الباب أمام إمكانيات المطالبة بتعويضات مناخية استنادًا إلى مفهوم الضرر.
ومن بين أبرز مكامن قوة الرأي:
• ترسيخ سابقة قضائية: اذ يمكن أن تستند إليها محاكم دولية ووطنية مستقبلاً في تقييم الالتزامات المناخية.
• إعادة توصيف الالتزامات المناخية : بوصفها واجبات قانونية لا تعهدات طوعية، مما يفتح الباب أمام محاسبة الدول عن تقاعسها في خفض الانبعاثات.
• ربط المناخ بحقوق الإنسان: كخطوة مفاهيمية متقدّمة تعزز شرعية الالتزامات الدولية وتأكدها.
• منح الحركات البيئية والمجتمع المدني أدوات جديدة : من اجل دعم التقاضي الاستراتيجي على المستوى المحلي والدولي، بالاستناد إلى الرأي الاستشاري كمرجع قانوني وأخلاقي
غير أن هذه الإيجابيات تقابلها نقاط ضعف بنيوية تحدّ من فاعلية الرأي على أرض الواقع، فطبيعته الاستشارية غير الملزمة تُضعف أثره القانوني، وتحد من فعاليته وتسمح للدول الملوثة بتجاهله دون عواقب مباشرة، كما يغيب عنه إطار زمني أو آلية مؤسسية تضمن تنفيذ توصياته أو مراقبة الامتثال لها، وإلى جانب ذلك، يتسم الرأي بغموض قانوني في جوانب محورية، أبرزها غياب معيار واضح لتعريف "الضرر المناخي" أو تحديد الحد المقبول من الانبعاثات، مما يفتح الباب أمام التأويل، ويعقّد مسألة إثبات المسؤولية، كما أنه لم يحدّد بدقة مساهمة كل دولة في التغير المناخي، رغم إشارته إلى مبدأ "المسؤولية المشتركة ولكن المتفاوتة"، وهو ما يضعف من إمكانية توزيع الأعباء بشكل عادل، وفوق ذلك، لم يُجب الرأي عن التحدي الأكبر المرتبط بتعارض الالتزامات المناخية مع قرارات سيادية ذات بعد اقتصادي، وهو ما يثير تساؤلات حول حدود الالتزام الدولي في مواجهة الأولويات الوطنية.
العدالة الاجتماعية والعدالة بين الأجيال: مفاهيم غائبة نصاً وحاضرة ضمناً في الرأي الإستشاري للمحكمة
على الرغم من الطابع التقدمي الذي اتسم به الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن التغير المناخي، إلا أنه يلفت الإنتباه غياب الإشارة الصريحة لمفهومي العدالة الإجتماعية والعدالة بين الأجيال، وهما من الركائز الأخلاقية والفلسفية الأساسية في أدبيات العدالة المناخية المعاصرة، فالرأي، في بنائه القانوني، اتجه نحو ترسيخ التزامات الدولة في ضوء مبادئ القانون الدولي البيئي وحقوق الإنسان، لكنه لم يمنح مكانة مستقلة أو واضحة لمفاهيم تعكس التفاوتات البنيوية في التأثر بالمناخ أو المسؤولية التضامنية عبر الزمن.
العدالة الاجتماعية – الغياب المقصود؟
رغم أن الرأي ألمح في بعض أجزائه إلى أن آثار التغير المناخي تتوزع بشكل غير متكافئ، إلا أنه لم يُعرّف ذلك ضمن إطار العدالة الاجتماعية كحق قانوني مستقل، بل بقي الأمر ضمن التحليل الوصفي لواقع الضعف الاجتماعي والهشاشة البيئية، هذا الغياب قد يكون نتيجة خيار قضائي محسوب، تسعى المحكمة من خلاله إلى الحفاظ على الطابع التقني والقانوني للرأي وتجنّب الدخول في مفاهيم ذات طابع سياسي أو أيديولوجي، خاصةً أن مصطلح "العدالة الاجتماعية" لا يزال غير متفق عليه عالميًا من حيث المعايير القانونية المحددة.
ومع ذلك، فإن تجاهل البُعد الاجتماعي للمناخ يُثير تساؤلات حول مدى قدرة هذا الرأي على تلبية متطلبات المجتمعات الأكثر تهميشًا، التي تعاني من أضرار مناخية مضاعفة دون أن تمتلك القدرة المؤسسية أو الاقتصادية للتكيّف أو التعافي، مما يجعل من غياب هذا البُعد نقطة ضعف في فاعلية الرأي كأداة شاملة للعدالة المناخية.
العدالة بين الأجيال – التزام أخلاقي دون أساس صريح...
في السياق ذاته، لم تتضمن صياغة الرأي إشارات صريحة لمبدأ العدالة بين الأجيال، رغم أن التغير المناخي بطبيعته يُنتج أضرارًا تراكمية عابرة للزمن تهدد رفاه الأجيال القادمة، وإن كانت المحكمة قد أشارت إلى ضرورة اتخاذ تدابير وقائية وتحمل المسؤوليات المستقبلية، إلا أن هذه الإشارات بقيت ضمنية ولم تُترجم إلى مبدأ قانوني صريح، يمكن من خلاله فرض التزامات قائمة على الإنصاف الزمني أو حماية مصالح الأجيال المستقبلية.
يُعد هذا الغياب مؤشراً على ضعف تطور المفاهيم الأخلاقية داخل البناء القانوني الدولي التقليدي، ويعكس بطئاً في استيعاب الديناميات الجديدة التي فرضتها أزمة المناخ، والتي تتطلب نماذج قانونية جديدة تتجاوز مبدأ السيادة الآنية، لصالح منطق طويل الأمد يُعلي من قيمة الاستدامة والمسؤولية العابرة للأجيال.
التداعيات القانونية والسياسية لغياب المفهومين...
• إيجابيًا: قد يكون تجاهل المفهومين نابعًا من رغبة المحكمة في تقديم رأي "قابل للتبني" سياسيًا، لا يثير حفيظة الدول الصناعية الكبرى، ويُركّز على التزامات موجودة أصلًا في صلب الإتفاقيات المناخية ومواثيق حقوق الإنسان، دون توسيع دائرة المسؤولية القانونية بشكل قد يُعدّ ثورياً أو مثيراً للجدل، هذا يُكسب الرأي قبولاً أوسع ويُقلل من فرص الاعتراض أو التسييس.
• سلبيًا: في المقابل، يؤدي هذا الغياب إلى تقليص الفاعلية التحويلية للرأي، بحيث يُفقده القدرة على إحداث إختراق مفاهيمي حقيقي في فهم العدالة المناخية بوصفها قضية تتجاوز البيئة بمعناها التقني، لتلامس عمق النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كما أنه يُضعف من حجية الرأي في سياقات التقاضي الاستراتيجي التي تسعى المجتمعات المدنية إلى تفعيلها من خلال ربط الأضرار البيئية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبالحق في التنمية والكرامة للأجيال القادمة.
في المحصلة إن غياب العدالة الاجتماعية والعدالة بين الأجيال عن النصوص الصريحة للرأي الاستشاري لا يعني غيابهما عن الواقع الموضوعي للأزمة المناخية، لكنه يعكس حدود الدور الذي لا تزال تلعبه المحاكم الدولية في تشكيل القانون البيئي، حيث تظل حذرة، محافظة، وأحيانًا محكومة بالبراغماتية السياسية على حساب التوسع في الالتزامات الأخلاقية، وهذا ما يُلقي بالعبء على الفاعلين الوطنيين والمجتمع المدني، لتعويض هذا الغياب من خلال تطوير تفسير موسّع للرأي، يدفع باتجاه تبني منظومة حقوقية مناخية أكثر شمولاً وعدالةً، تعترف بعمق التفاوتات، وحقوق الأجيال القادمة، وتُعيد موضعة الإنسان في قلب النقاش القانوني البيئي.
عدالة المناخ في ميزان القانون الدولي: من الخطاب إلى الأثر... ما المطلوب من الدول النامية؟ الأردن كنموذج تطبيقي...
بلا شك يمثّل الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية لحظة فارقة في مسار العدالة المناخية العالمية، غير أن تفعيل مضامينه على أرض الواقع، خصوصًا في السياقات العربية، يصطدم بجملة من التحديات البنيوية والوظيفية. فالعديد من الدول النامية، ومنها الدول العربية، تعاني من هشاشة في البنية التشريعية البيئية، وغياب المحاكم البيئية المتخصصة، إلى جانب تدنّي الوعي القانوني بقضايا المناخ لدى الفاعلين القانونيين والمؤسسيين، ناهيك عن تغليب المصالح الاقتصادية والسياسية على الاعتبارات البيئية في السياسات العامة. مما يعقّد من فرص إدماج مفاهيم الرأي في السياسات الوطنية.
من هذا المنطلق، يفرض الواقع تساؤلًا جوهريًا: كيف يمكن الانتقال من خطاب العدالة المناخية إلى ممارسات قانونية ومؤسسية فاعلة ضمن أنظمة لا تزال في طور التشكّل؟ تتطلب الإجابة تبنّي حزمة متكاملة من الإصلاحات التشريعية والمؤسسية، وبناء تحالفات مدنية وقضائية قادرة على تحويل المبادئ الواردة في الرأي إلى أدوات عملية تتجاوز التنظير.
وفي هذا السياق، يشكل الرأي الاستشاري فرصة استراتيجية للدول النامية، وعلى رأسها الأردن، لتعزيز حضورها القانوني والدبلوماسي في ساحة المناخ الدولية، فهو يوفّر مرجعية قانونية مهمة يمكن توظيفها بذكاء سياسي وقانوني لتعزيز جهودها في مجال العدالة المناخية.
- على المستوى الوطني: يمكن الاستناد إلى الرأي في تطوير الإطار التشريعي البيئي الوطني، لا سيّما من خلال إدماج مفهوم "الضرر المناخي" كأحد مصادر المسؤولية القانونية، وإنشاء وحدات قضائية متخصصة ضمن الجهاز القضائي تعنى بالنزاعات المناخية ذات البُعد العابر للزمن والحدود، ما من شأنه تعزيز كفاءة التقاضي البيئي.
- على المستوى الدولي: يتيح الرأي للدول النامية و للأردن تبرير مطالباته بالحصول على دعم مالي وتقني من آليات التمويل المناخي، وعلى رأسها صندوق المناخ الأخضر، استنادًا إلى مبدأ "المسؤولية المشتركة ولكن المتفاوتة، كما يُمكن توظيف مضامين الرأي لتعزيز المواقف الأردنية داخل تحالفات الجنوب العالمي، وممارسة ضغط دبلوماسي مشروع على الدول الصناعية لتحمل مسؤولياتها التاريخية والمعاصرة.
- على مستوى المجتمع المدني: يُمكّن الرأي المؤسسات الحقوقية والبيئية من تعزيـز جهود التقاضي المناخي الاستراتيجي، عبر استخدامه كمرجعية قانونية وأخلاقية في رفع دعاوى ضد الجهات المسببة لأضرار مناخية وبيئية، سواء كانت محلية أو عابرة للحدود، إلا أن تفعيل هذا المسار يصطدم بعقبات، منها غياب تشريعات تُنظّم صراحةً المسؤولية المناخية، وضعف القدرات الفنية والقضائية في توثيق الأضرار المناخية وتحليلها.
• على المستوى السياسي: يتيح الرأي للدبلوماسية الأردنية توظيفه كأداة تفاوضية خلال مؤتمرات الأطراف (COP) لزيادة الضغط على الدول الصناعية الكبرى، والمطالبة بدعم تقني ومالي من صناديق المناخ العالمية. ولضمان الانتقال من الرمزية القانونية إلى الأثر الواقعي، لا بد من تبني استراتيجية وطنية متكاملة تشمل:
• تحديث الإطار القانوني للاعتراف بالضرر المناخي كأساس للمسؤولية المدنية.
• إنشاء قواعد بيانات وطنية دقيقة لرصد الانبعاثات والتأثيرات المناخية.
• تأسيس شبكات إقليمية للتقاضي المناخي تتيح تبادل الخبرات وتعزيز التنسيق.
• تدريب القضاة والمحامين على قضايا المناخ وتطوير أدوات الإثبات القانونية.
• دعم الأبحاث المناخية القانونية والربط بين مؤسسات البحث والمجتمع المدني.
من التنظير إلى التغيير: إختبار الإرادة السياسية...
رغم ما يحمله رأي المحكمة من حمولة قانونية وأخلاقية عالية النبرة، إلا أنه يظل في جوهره خطابًا غير ملزم، يفتقر إلى الآليات التنفيذية التي تضمن فعاليته، مما يُسلّط الضوء على المعضلة الجوهرية: كيف ننتقل من مستوى التنظير القانوني إلى واقع تشريعي ومؤسسي فعّال؟.
إن تفعيل مضامين هذا الرأي يتطلب إرادة سياسية وتشريعية واضحة، قادرة على مواءمة الإطار الوطني مع المفاهيم القانونية الناشئة التي كرسها، وعلى رأسها الاعتراف بالضرر المناخي كوجه من أوجه المسؤولية القانونية للدولة والقطاع الخاص.
ولن يكتمل هذا التحول دون إعادة تشكيل الوعي القانوني والقضائي، من خلال بناء فهم معمّق لدى القضاة والمحامين حول طبيعة النزاعات المناخية وتعقيداتها الزمنية والتقنية، إضافة إلى تعزيز الدور المحوري للمجتمع المدني والخبراء البيئيين، باعتبارهم شركاء في الرصد، وتقديم الأدلة، ودفع عجلة التقاضي الاستراتيجي نحو العدالة المناخية.
إن اختبار فاعلية الرأي لا يكمن في نصّه بقدر ما يكمن في استجابة الدول له، فالأردن والدول النامية مدعوّةً اليوم إلى تحويل هذا الرأي من وثيقة مرجعية إلى أداة حوكمة قانونية، تعيد رسم العلاقة بين الإنسان والبيئة، من خلال منظومة قانونية رقمية، تشاركية، وقائمة على الشفافية والمساءلة، تعكس تعقيدات الواقع المناخي وتطلعات الأجيال القادمة.
التكنولوجيا، الحوكمة والقطاع الخاص: آفاق جديدة لتعزيز العدالة المناخية
يشهد مشهد العدالة المناخية اليوم توسعًا في أدوات الفعل والتأثير، وتُعد التكنولوجيا أحد أبرز محركات هذا التحول، فقد باتت تقنيات مثل الاستشعار عن بُعد، وصور الأقمار الصناعية، وأدوات الذكاء الاصطناعي، توفر إمكانات دقيقة لرصد الأضرار البيئية، وتوثيق آثار التغير المناخي بشكل علمي وقابل للاستخدام في عمليات التقاضي والمساءلة، هذه الأدوات لا تسهم فقط في تعزيز كفاءة الإثبات القانوني، بل تمنح الدول والمجتمعات آليات دفاعية وهجومية جديدة في معركة العدالة المناخية، وفي هذا السياق، يبرز الدور الحاسم للحوكمة البيئية الرشيدة، التي تستند إلى مبادئ الشفافية، والمساءلة، والمشاركة المجتمعية، وتربط بين العدالة المناخية والعدالة الاجتماعية، مع مراعاة حقوق الأجيال القادمة، إذ لم يعد مقبولًا الفصل بين حماية البيئة وكرامة الإنسان، أو تجاهل التأثيرات النفسية والاجتماعية للتغير المناخي على الفئات الأكثر هشاشة، ومن جهة أخرى، لم يعد دور القطاع الخاص هامشيًا في المعادلة المناخية، بل بات من الضروري توسيع نطاق المسؤولية القانونية ليشمل الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات الصناعية الكبرى، التي تسهم بنسب كبيرة في الانبعاثات الكربونية والتدهور البيئي، وعلى هذه الجهات أن تتحمل جزءًا من العبء المناخي، سواء من خلال تقنيات أنظف، أو عبر المساهمة في صناديق التعويض والدعم البيئي، في إطار من العدالة والمحاسبة.
الخلاصة
يمثّل الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية محطة رمزية بالغة الأهمية في تطوّر الخطاب القانوني المناخي، ويعكس إدراكًا متزايدًا لتشابك أزمة المناخ مع حقوق الإنسان والعدالة البيئية، ومع ذلك، فإن هذه الخطوة القانونية المتقدمة لا تخلو من التساؤل المشروع حول مدى فاعليتها العملية، في ظل افتقارها للطابع الإلزامي الذي يُمكّنها من فرض التزامات صريحة أو مساءلة قانونية للدول المتقاعسة. فرغم أن الرأي لا يمتلك "مخالب قانونية" تُتيح إنفاذًا مباشرًا، إلا أن قوته تكمن في طابعه التأسيسي، إذ يُسهم في إعادة صياغة مفهوم المسؤولية الدولية المناخية، ويوسّع نطاق التزامات الدول، ويمنح زخماً قانونياً وأخلاقياً للمجتمع المدني والدول النامية، بما يعزّز من قدرتهم على الضغط والتقاضي والدفاع عن الحقوق البيئية في المحافل الدولية والوطنية على حدّ سواء. إن أهمية هذا الرأي لا تُقاس بمدى إلزاميته، بل بقيمته المرجعية باعتباره وثيقة معيارية قادرة على إلهام المحاكم الوطنية لاعتماد معايير أكثر صرامة، وتحفيز المشرّعين على سدّ الثغرات في الأنظمة القانونية الداخلية، ووضع أسس واضحة لمساءلة الدول عن الضرر المناخي، إنه ليس أداة تنفيذية حاسمة، لكنه يمهّد الطريق، ويمنح الخطاب المناخي شرعية قانونية وأخلاقية يصعب تجاهلها في المستقبل، خاصة في ظل تعاظم التحديات البيئية العالمية.
وفي السياق العربي، يشكّل هذا الرأي فرصة استراتيجية للدول النامية، وفي مقدمتها الأردن، لتعزيز مكانتها في النقاشات المناخية العالمية، والبناء عليه لتطوير بنى تشريعية وقضائية متقدمة، تواكب متطلبات العدالة البيئية والمناخية، فهو يمنح تلك الدول أدوات قانونية جديدة للمطالبة بالدعم والمساءلة، ويدفع نحو تأسيس منظومة وطنية مستقلة وفعّالة للتقاضي المناخي، قائمة على الاعتراف بالضرر المناخي كأحد مصادر المسؤولية القانونية.
وفي المحصلة، يمكن اعتبار هذا الرأي خطوة جريئة في الاتجاه الصحيح، لكنه يظل غير كافٍ بمفرده لتحقيق التحوّل الجذري المنشود، إنه بداية لحوار قانوني ومؤسسي يجب أن يتواصل ويتعمّق، وصولًا إلى بنية قانونية دولية أكثر عدلًا وإنصافًا، أما مسؤولية تحويل هذا الرأي إلى أثر ملموس، فتقع على عاتق الإرادة السياسية والتشريعية للدول النامية، التي باتت مطالبة بتبنّي إصلاحات حقيقية، تعزّز من قدرتها على حماية الإنسان والبيئة في آنٍ معًا، ضمن منظومة قانونية تعكس حجم التحدي المناخي وتعقيداته، تتماشى مع تحديات المرحلة وتؤسس لمنظومة قضاء بيئي مناخي مستقل وفعّال.
* الدكتور محمد مصطفى عيادات
اكاديمي ومتخصص بالقانون الدولي البيئي
رئيس المركز الوطني للعدالة البيئية