لقاء الملك مع الاعلاميين: نحو استراتيجية وطنية للإعلام
د. منيرة جرادات
02-08-2025 08:29 AM
جاء لقاء جلالة الملك مع ممثلي وسائل الاعلام يوم 30-7-2025 مباشرة بعد عودة جلالته من زيارته الرسمية لالمانيا واتصالاته مع الرئيس الامريكي ورئيس الوزراء البريطاني ورئيس وزراء كندا وغيرهم، حيث ان هذه الزيارات والاتصالات كانت بهدف حشد التأييد العالمي لوقف المأساه التي يتعرض لها اهل غزة، هذه الماساة غير مسبوقة في التاريخ والتي تتعارض مع كل قيم ومبادئ الانسانية والقوانين الدولية. ويتزامن هذا اللقاء مع بداية التحول العالمي وخاصة الاوروبي اتجاه القضية الفلسطينية والقناعة بضرورة حل الدولتين، هذا الحل الذي نادى وينادي به جلالة الملك على اعتبار انه الحل الوحيد القابل للتطبيق، والذي بدونه لا مجال لأي استقرار في المنطقة. ويتزامن اللقاء كذلك مع الهجمة الاعلامية غيرالمنصفة وغيرالمبررة التي يتعرض لها الاردن والتي يقودها الذباب الالكتروني خاصة بعد التصريحات الجاحدة والظالمة وغيرالواقعية للسيد"الحيّة"، تلك التصريحات التي تتنكر بكل جحود وظلم لمواقف الاردن قيادة وحكومة وشعبا تجاه القضية الفلسطينية بعامة وغزة بخاصة.
ان هذا اللقاء لم يكن مجرد لقاء تقليدي بين رأس الدولة والاعلام بل كان توجيها استراتيجيا نحو مستقبل اعلامي مختلف، واضعا جلالته الاعلام الاردني امام مسؤولياته الكبرى في وقت تتعاظم فيه التحديات وتصبح الحاجة فيه ماسة الى خطاب اعلامي واقعي وعقلاني وموضوعي ومسؤول. لهذا فإن هذا اللقاء الاعلامي يشكل فرصة تاريخية لبلورة استراتيجية وطنية للاعلام الاردني في ضوء توجيهات جلالة الملك، حيث ان وجود مثل هذه الاستراتيجية لم يعد خيارا رفاهيا اواستحقاقا مؤجلا بل اولوية ملحة تفرضها معادلات الداخل والخارج، ويفرضها ايضا حق المواطن في اعلام يحترم وعيه ويواكب طموحه، ويكون صلة عقلانية بين الدولة ومواطنيها. وفي ضوء القراءة المعمقة لتوجيهات جلالة الملك وسبر أغوار مضامين هذه التوجيهات، فإن هذه الاستراتيجية يجب ان ترتكزعلى القواعد التالية:
اولاً: الواقعية والعقلانية
يجب ان تُبنى الاستراتيجية الوطنية للاعلام الاردني على ان ما قدمه الاردن ويقدمه للقضية الفلسطينية وللأهل في غزة هوانعكاسا لواجبه الوطني وتكريسا للشرعية الدينية والقومية والاخلاقية التي يرتكزعليها نظام الحكم الهاشمي. وفي هذه السياق، يقول جلالة الملك" اننا مستمرون في تقديم كل ما بوسعنا من منطلق واجبنا الاخلاقي والانساني والعروبي الذي لا نمن به ولا ننتظر الشكرعليه".
لهذا، فإن هذه الاستراتيجية الاعلامية لا بُد وان تؤكد ايضا على ان الاردن قيادة وحكومة وشعبا قدم كل ما هو مستطاع و معقول ضمن امكاناته وفي ضوء الواقع وبما تسمح به الظروف والتعقيدات الجيوسياسية. وهنا، يجب التأكيد على أن ما قدمه الاردن ليس كافيا لوضع حدا للمأساه التي يتعرض لها الاهل في غزة لكنه بالتأكيد يخفف بصورة واضحة من ويلات هذه المأساة، وفي هذا السياق قالت العرب قديما " ان ما لا يدرك كله لا يترك جله"، فالاردن لم يفوت فرصة ولم يتوانى عن استغلال اي امكانية يستطيع من خلالها ان يغيث الاهل في غزة سواء على مستوى المعركة السياسية والدبلوماسية التي خاضها الاردن بكل ما اوتي من قوة أوعلى مستوى تقديم المساعدات العينية والطبية التي ساهمت، برأي كل المنصفين، في تخفبف حجم المأساة التي يتعرض لها الاهل في غزة.
وهذه الاستراتيجية يجب أن تؤكد أن السياسة كانت ولا تزال وستبقى فن الممكن في ضوء الحسابات العقلانية والواقعية والتوازُنات المنطقية، بعيدا عن الشعارات والمقاربات العاطفية والشعبوية، فالاعلام الوطني المسؤول لا بُد أن يتجاوز التنظير والمبالغة ويسعى لعقلانية الطرح من خلال فهم المعطيات كما هي، والعمل على توجيه المواطنين دون تهويل أو شعبوية، فليس مطلوبا من الاعلام أن يكون تابعا أومعارضا بالمطلق، بل الاصل أن يكون فاعلا مستقلا، يرى الواقع كما هو ويقترح الطرق والسبل الممكنة لتجاوزه وتحسينه.
وهنا، فإن هذه الاستراتيجية يجب أن تركزعلى أن دعم الأهل في فلسطين وغزة لا يعقل أن يكون على حساب استقرار الاردن ومنعته ومصالحه العليا، حيث وكما أكد جلالته" إن وقف سير الحياه الطبيعية والإضرار بالاقتصاد الوطني لا يخدم مصالح الأشقاء الفلسطينين وهم أول من يعي ذلك". فالاستراتيجية الوطنية للاعلام يجب أن تسعى لتشكيل وعي حقيقي لدى الاردنيين والاشقاء الفلسطينين مفادهُ أن الاردن القوي والمستقرهوالسند والظهير لفلسطين بعامة وغزة بخاصة.
ثانياً: حرية الرأي والوحدة الوطنية
على الاستراتيجية الوطنية للاعلام الاردني أن تنطلق من توجيهات جلالة الملك بخصوص حق التعبيرعن الرأي وان تأخذ في الاعتبار المقولة الشهيرة للمفكر الفرنسي فولتيير:"قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد ان ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبيرعن رأيك".وهنا يجب على الاعلام من خلال هذه الاستراتيجية أن لا يسعى الى تجريم الرأي المخالف أواقصاءه، بل لا بد من التعامل معه بالمنطق والحكمة والموعظة امتثالا لقوله تعالى في سورة النحل"وجادلهم بالتي هي أحسن"، وهنا يجب على اعلامنا الوطني المسؤول الابتعاد عن سياسة الإقصاء والتخوين والتجريح والتأكيد على أن وحدتنا الوطنية خطاً أحمرلا يجوز المساس بها تحت اي ظرف من الظروف. وهنا، فإنه من غيرالمعقول أن يسعى الاعلام لتوحيد الاراء، بل عليه احترام الاختلاف وتهذيب الاراء المخالفة لتصبح ادوات للبناء وليس معاول للهدم.
فحق ابناء الوطن في حرية التعبيرهو حق دستوري لا يمكن المساس به ما دامت هذه الحرية تحت سقف القانون وضمن ثوابت الدولة الاردنية. فحرية الرأي ليست تحديا للدولة بل ضماناً لاستقرارها اذا تمت ادارتها بمهنية ومؤسسية ومسؤولية. وفي هذا السياق يقول جلالة الملك "يجب احترام جميع وجهات النظر واختلاف اساليب التعبير عن الحزن تجاه ما يجري في غزة دون اتهامات او تهجم او تشهير بالاخر لأن ما يجمعنا نحن الاردنيين هو وحدتنا الوطنية المتينة التي لا تنال منها الاختلافات".فليس من المعقول أن يكون الاعلام الوطني المسؤول منبرا للفرقة أو وسيلة لصناعة الانقسام. وبدلا من ذلك يجب على الخطاب الاعلامي تمتين الوحدة الوطنية، وأن يتعامل مع تنوع المجتمع الاردني كقوة لا كعامل ضعف.
إن الاستراتيجية الوطنية للاعلام الأردني يجب أن تبتعد عن نهج الذباب الالكتروني الذي عادة ما يسعى لقلب الحقائق ونكران الواقع والانفصال عنه بطريقة تعمل على تشكيل وعيا زائفا وفكرا غوغائيا. و بدلا من ذلك، فإن استراتيجيتنا الوطنية للاعلام لا بد وان تسعى لبلورة وانتاج اعلام دولة تنعم بالديمقراطية ذات تاريخ ورسالة، يحكمها القانون والمؤسسات بقيادة هاشمية مؤثرة صاحبة شرعية دينية وقومية ودستورية. وعلى هذا الاعلام أن يكون قائما على نهج المبادرة البناءة وليس قائما على نهج ردود الأفعال الانفعالية اوالعاطفية. وفي هذا المجال فإن جلالة الملك أكد في هذا اللقاء كما أكد سابقا في الورقة النقاشية الاولى على أن"الديمقراطية لا تكتمل الا بالمبادرة البناءة وقبول التنوع والاختلاف في الرأي".
بإختصار، يجب على الاستراتيجية الوطنية للاعلام أن تسعى لبلورة اعلام وطني بمقاييس العصر، لا يلهث خلف الاثارة، ولا يرضخ للمصالح، ولا يكررالرواية الرسمية بلا مساءلة، يحترم الأراء المعارضة بطريقة تجسد وحدتنا الوطنية، وأن يكون اعلام وطني يحمل رسالة الدولة، ويطرح اسئلتها وقضاياها، ويحترم وعي مواطنيها.