زهير النوباني… حارس الدراما وضمير الفن
م. عامر البشير
02-08-2025 10:54 AM
لم يكن اللقاء بالفنان الأستاذ زهير النوباني في دارة السيّد حسن أبو جابر بالطنيب / جنوب عمّان مجرد جلسة عابرة، بل نافذة على عالم يفيض بالحكمة والإبداع، جلس أمامنا بهدوء مهيب، عيناه تلمعان بمزيج من التجربة والصدق، محاطًا بشباب من آل المصري العواملة الذين نفاخر بوعيهم وحضورهم، وما إن بدأ الحديث، حتى تحوّل المجلس إلى رحلة في فلسفة الفن ومعنى الرسالة؛ لحظة جعلتني أدرك أنّني أمام فيلسوف يرتدي ثوب ممثل، لا أمام فنان يقتصر على أداء أدوار على خشبة مسرح أو أمام عدسة كاميرا.
سيد الدراما البدوية
لم يكن لقب "سيد الدراما البدوية" الذي التصق باسمه مجرّد مجاملة، بل شهادة حيّة على أكثر من نصف قرن من العطاء، فقد منح النوباني الدراما الأردنية والعربية بعدًا جديدًا، جمع فيه بين أصالة التراث وجرأة الموقف، لتتحوّل شخصياته إلى مرآة للوعي الجمعي، ونداء للكرامة والحرية، أكثر من كونها مشاهد عابرة على الشاشة.
من اللبن إلى عمّان ... إرادة لا تنكسر
وُلد زهير بشير مصطفى النوباني في السادس من فبراير عام 1951 في قرية اللبن الشرقي بفلسطين، وانتقل مع أسرته إلى عمّان حيث نشأ بين أحياء جبل القلعة وجبل عمّان، كان ابنًا لضابط في الأمن العام، ورث عنه الانضباط والكرامة، وعن الحياة صلابة الإرادة. وكان يردد:
"الفقر ليس عائقًا، بل دافع… إرادة الإنسان أثمن من كل ثروة."
عصامي البدايات ودرس التحوّل
بدأ دراسة الطب في جامعة دمشق تحقيقًا لرغبة أسرته، لكن درسًا في التشريح كشف له أن مصيره ليس مشرط الجرّاح بل خشبة المسرح، عاد إلى الأردن ليدرس الإدارة والعلوم السياسية في الجامعة الأردنية، وفي جيبه عشرون دينارًا فقط، أكثر من نصفها دفعه رسومًا للسنة الدراسية الأولى، وهناك التقى المخرج الكبير هاني صنوبر الذي فتح أمامه أبواب المسرح، ليكتشف أن الفن قدر ومسؤولية قبل أن يكون مهنة.
السجن مدرسة الحرية
عام 1972، شارك في مظاهرة طلابية احتجاجًا على رفع الرسوم الجامعية، فاعتُقل 45 يومًا وفُصل عامًا عن الجامعة، لم تكسر التجربة عزيمته، بل صقلت وعيه، وخلال فترة فصله، تفرّغ للتحضير لعمل مسرحي باسم حلاق بغداد، حاملاً راية حرية الرأي والتعبير، وصف التجربة لاحقًا بأنها:
"هدية قاسية أيقظت في داخلي إبداعًا لا ينام."
ومنذ ذلك الحين، صار الفن عنده وجهًا آخر للحرية.
جوهر إنسان ... خلف عدسة الكاميرا
على الرغم من الشهرة وضجيج الأضواء، ظلّ النوباني وفيًا لعائلته، معتبرًا البيت مرآة القيم. وكان يقول لأبنائه:
"نجاحي الحقيقي ليس بعدد أعمالي، بل أن أبقى أبًا حنونًا وزوجًا وفيًا."
جمع بين صرامة الموقف ودفء الإنسانية، ليقدّم صورة الفنان الذي لا تنفصل رسالته عن حياته اليومية.
امتحان المنصب والمال والشهرة
كان يردد أنّ الإنسان يُختبر بثلاثة: المنصب، المال، والشهرة. لكنه لم يتعامل معها كامتيازات، بل كابتلاءات عسيرة لا ينجو منها إلا من ظلّ وفيًا لقيمه، لذلك رفض كثيرًا من الأدوار التي أغرته بالمال أو الظهور، متمسكًا بمقولته:
"الفن بلا موقف أخلاقي وهمٌ جميل لا يغيّر شيئًا."
المسرح … ضمير الأمة
آمن النوباني أن المسرح أعظم الفنون، لأنه يحوّل النص إلى حياة، والمشهد إلى درس في الإدراك. حتى أدواره الشريرة حملت رسالة، فقد كان يقدم الشر ليكشف قبحه، لا ليغويه، وهنا تكمن فلسفته النقدية: جعل الفن أداة لإيقاظ الضمير لا لتخديره، ولتعميق الوعي لا لتزييفه.
الدراما البدوية ... بين الحنين والتجديد
لم يكن انحياز النوباني للدراما البدوية مجرد خيار فني، بل موقف وجودي، في شخصياته كانت الكلمة عهدًا، والأرض هوية، والمروءة شريعة لا تسقط، لكنه ترك سؤالًا مفتوحًا للأجيال القادمة:
هل تظل الدراما البدوية مرآة للماضي، أم تصبح مختبرًا لأسئلة الحاضر؟
إن الإرث الذي تركه يدعونا إلى تجاوز حدود الحنين، لنربط بين صورة الفارس العربي وقضايا مجتمع يعيش تحديات الهوية، وضغط الحداثة، وتساؤلات العدالة الاجتماعية.
مدرسة بلا جدران
لم يكن النوباني مجرد ممثل، بل مدرسة بلا جدران، كل مشهد عنده رسالة، وكل كلمة أمانة، وكل دور امتحان للضمير، أثره محفور في الوجدان العربي كندبة وعي لا يمحوها الزمن، وكجسر يصل بين الماضي والحاضر، بين الفن كجمال والفن كرسالة.
خاتمة … رسالة للأجيال
خرجتُ من تلك الأمسية مقتنعًا أنني لم أجالس ممثلًا فحسب، بل فيلسوفًا ومثقّفًا واسع الاطّلاع، جعل من الفن رسالة وجود ومنهج حياة، لقد أدركت أن تجربة زهير النوباني ليست صفحة مطوية في سجل الدراما، بل منارة تُضيء الدرب لمن يجرؤون على جعل الفن فعلًا للتغيير، لا مجرد وسيلة للترفيه.
إنّ رسالته للشباب، وهم يقفون اليوم على أعتاب تحديات كبرى، أن الفن لا يُقاس بعدد الأعمال ولا بسطوع الأضواء، بل بقدرته على إيقاظ الضمير، وزرع الأسئلة في العقول، وإحياء قيم الكرامة والحرية في زمن يسعى لطمسها. لقد أثبت أن الممثل الحقّ ليس من يتقن تقمّص الشخصيات فحسب، بل من يجعل من كل دور صرخة في وجه التهميش، ونافذة للأمل في قلب العتمة.
ومع أنّ الدراما الأردنية ما تزال تواجه تحديات جسيمة، تبدأ من ضيق التمويل وضعف الإنتاج، مرورًا بغياب الدعم المؤسسي والرؤية الاستراتيجية، وصولًا إلى المنافسة غير المتكافئة مع درامات إقليمية ضخمة؛ إلا أنّ زهير النوباني جسّد عبر مسيرته أن الفكرة الأصيلة، حين تلامس الضمير الجمعي، أقوى من كل العوائق، وأبقى من كل الاعتبارات.
إن وفاءنا الحقيقي ل زهير النوباني لا يكون بالتصفيق لإنجازاته فحسب، بل بأن نحمل شعلة التجديد، ونصون جوهر الأصالة، ونؤمن أن الفن حين يرتبط بالوعي يصبح أداة مقاومة، وحين يقترن بالموقف يتحوّل إلى قوة تغيير.
ولهذا، فإنني أقول لكم يا شباب هذا الوطن:
لا تجعلوا الفن ترفًا، ولا تتركوه أسيرًا للسطحيات، اجعلوه سلاحًا في معركة الوعي، ومنبرًا يرفع صوت الحق، وجسرًا نحو مستقبل تصنعونه أنتم بإبداعكم، تمسّكوا بقيم الحرية والكرامة، فهما البوصلة التي تحمي المسيرة من الانحراف، واجعلوا من المدرسة التي ارسى دعائمها زهير النوباني منارةً تُكمل مشوارها أجيال لا تعرف المستحيل.