الصندوق الأسود .. القادة العظام لا يصنعون المعجزات
د. كفاية عبدالله
02-08-2025 02:51 PM
كم كنا نحلم، ونظن، كما يظن الطيبون والحالمون دومًا، أن التغيير يحتاج إلى تغيّرات كونية، وإلهامٍ من السماء، وقائدٍ تهبه الأقدار لسكان البسيطة.
قائدٌ ملهَم، مصلحٌ نقيّ، يملك من البصيرة ما لم يملكه من سبقوه، ومن الإرادة ما يواجه به التحديات، ومن القدرة ما يجعلنا نؤمن بأنه قادر على تخليصنا من كل ما فسد، وتطهير آثام الماضي.
وانتظرناه... وانتظرناه طويلًا.
لكننا لم ندرك أن هذا الانتظار لم يكن إهدارًا للزمن فقط، بل إجحافًا بحق أولئك الذين جاؤوا وقد حملوا في قلوبهم صدقًا، وفي نواياهم إصلاحًا، وفي أعينهم لهفة لا تقلّ عن لهفتنا.
لم يكونوا مخادعين، ولم يخذلونا.
نحن من خذلنا الفكرة ذاتها، حين صدّقنا أن شخصًا واحدًا – مهما بلغت طهارته ونواياه – يستطيع أن يُصلح وحده ما أفسدته عقود من التراكم، والتكلّس، والقصور المؤسسي.
هؤلاء الذين انتظرناهم كانوا أفضل منا، بل أنبل، وأصدق، وأخلص.
لكن الوحي انقطع بعد الأنبياء عليهم السلام، ولا أحد منهم امتلك عصا موسى.
ومن الظلم أن نُسقط على أكتافهم كل آمالنا، ونحمّلهم مسؤولية إصلاح عاجل لمنظومة مركبة من الأخطاء، بينما نضع خدنا على الأريكة ونردد، في اتكالية ذهنية، مقولة قوم ذي القرنين: "اجعل بيننا وبينهم سدًا".
نحلم بالراحة، ونتنصّل من المسؤولية الجمعية، ثم نحاسبهم بعد مئة يوم على ما أفسدته مئة عام، وكأنهم وحدهم يملكون مفاتيح الخلاص.
نعم، لقد اجتهدوا... وبذلوا... وصبروا.
لكننا نحن – بفهمنا القاصر – ظننا أن التغيير يُصنع بلحظة، لا يُبنى عبر الزمن، وأن الأفكار المبتكرة وحدها تصنع الفرق، متناسين أن الفكرة بلا منظومة، مجرد ومضة تُطفأ سريعًا في ظلام التنفيذ.
التغيير ليس وعودًا، ولا خطبًا، ولا نوايا طيبة.
ولا حتى أفكارًا إبداعية وأحلامًا طموحة فقط.
التغيير منظومة تُبنى بعقل، وتُنفَّذ بفريق، وتُدعم بثقافة، وتُصان عبر الزمن.
هو مراحل تتكامل، لا لحظة تُختزل.
هو شبكة مترابطة من السياسات والعمليات والكوادر، لا مشهدًا بطوليًا يُعرض للجمهور، تسجَّل عليه الإعجابات، ثم يُسدل عليه الستار.
الإصلاح خصمه اللدود "الشعوبية"، وخصمه الآخر الجري وراء النجاحات السريعة.
فأبطال العالم الحقيقيون تركوا ومضات مضيئة لأنهم صنعوا الأثر، لا الضجيج.
وهذا لا تصنعه آلات التصوير، بل النفوس العظيمة التي تزن الأمور ببوصلة الغاية النبيلة، وتعرف أن النتائج المتأنية تُصنع في غرفة العناية المركزة، حيث يُمنع دخول الزوار ضمانًا لسلامة العلاج.
الرؤية، حين تُطالب بترجمتها قبل موعد ولادتها، تشبه جنينًا يُطالب بالنطق قبل أن يفتح عينيه.
هي بحاجة إلى أعوام من الإنضاج، والمراكمة، والتصحيح.
حتى الإبداع – الذي راجت سوقه في زمن الشعارات – لا يكفي وحده.
فالفكرة، مهما كانت عبقرية، لا تصمد أمام نظام لا يتبناها، ولا يعيها، ولا يُنفذها، ولا يُقيّمها.
والزمن، هذا العنصر المغفَل دومًا، جزء لا يتجزأ من الحل.
فلا تغيير يُقطف قبل موسمه، ولا يُجبَر على الولادة المبكرة دون أن يموت في مهده.
نحن لا نحتاج إلى أسماء جديدة ولا وجوه جديدة، بل كل ما نحتاجه إلى بنية جديدة.
إلى بيئة لا تستهلك المصلحين ثم تلفظهم، ولا تُطالب الفرد أن يحمل وطنًا على ظهره بينما يتفرّج الآخرون، كما لو كنا في سباق مراهنات ننتظر من نراهن عليه ليحقق لنا الانتصار، قبل أوانه.
نحتاج إلى وعيٍ وطنيٍّ، جماعيٍّ، جمعيٍّ، بأن التغيير لا يأتي على يد فرد مهما صلح، فهو وحده ليس بصمد، ولا تختزل الحكاية بالبطل وحده.
والمساءلة لا تُنزل على رأس دون آخر، ولا يصحّ لأحدنا أن يبقى في صفوف المتفرجين.
لابد أن تتلاقى الرغبات بالفعل، مع قدرة النظام على التجاوب.
لقد ظلمنا الذين حاولوا، حين طالبناهم بسرعة الأثر، وقطفنا الثمار دون أن نروي الأشجار، ثم شيطنّا كل من سار على الدرب.
وحملنا وزر تنفير ذوي القلوب الكبيرة، ممن لم تحتمل أرواحهم ضجيجنا، فرحلوا دون ضجيج، كما يرحل المصلح النبيل، حين لا يُفتح له الباب، ويكفيه أن يقول:
"إني لكم ناصح أمين."
(Kifaya2020@gmail.com)