المدنية الحل الأخير للقضية الفلسطينية
محمد الأحمد
03-08-2025 09:36 PM
لم يعد ممكنًا النظر إلى القضية الفلسطينية من منظور النزاع على الأرض أو الحدود أو حتى على الرواية التاريخية، فكل تلك الأطر ضاقت عن استيعاب تعقيدات الواقع وانفجاراته المتتالية، وتحولت إلى أغطية لشرعنة الأدلجة والتوحش المتبادل.
لقد تجاوز الصراع حدوده الجغرافية وتحول إلى منظومة فكرية مغلقة يتغذى فيها الطرفان على نفي الآخر، وتستمد فيه الشرعية من الضحية لا من العدالة، ومن الألم لا من العقل.
الإسرائيلية الدينية في نسختها الحاكمة اليوم لا تقوم فقط على احتلال الأرض، بل على احتكار الحقيقة، وتجريد الفلسطيني من كل صفة قانونية وأخلاقية، عبر تحويله إلى طيف دائم التهديد، ومادة دائمة للاستثمار السياسي الداخلي.
وفي المقابل، لم ينجُ المشروع الوطني الفلسطيني من الانغلاق، فقد تم اختزاله في خطابات خلاصية، دينية أو شعبوية، غابت عنها فكرة الدولة بوصفها عقدًا اجتماعيًا، وحلّت مكانها بنى شبه عسكرية ترى في المجتمع مادة تعبئة، لا مادة بناء.
وبين الاسرائيلي الذي يقدّس التفوق القومي، والفلسطيني الذي يقدّس رمزية المقاومة دون مشروع مدني جامع، تلاشت الفكرة الجوهرية: أن الإنسان هو المركز، وأن الحقوق لا تُمنح على أساس الأصل أو التاريخ أو الدين، بل على أساس المواطنة المتساوية. لقد أثبتت العقود السبعة الماضية أن كل الحلول التي استندت إلى منطق الفصل أو القوة أو الهويات الصلبة لم تنتج سوى أنظمة موت.
حل الدولتين مات منذ سنوات طويلة، بعدما تحول إلى وهم تفاوضي مفرغ من كل محتوى حقيقي، ودولة واحدة إثنية يهودية ليست سوى نظام فصل عنصري مهما تغلفت بالشكل القانوني. والحل الوسط الوحيد المتبقي، والذي لا يزال مستبعدًا من دوائر التأثير، هو بناء دولة مدنية اتحادية تقوم على أساس المواطنة الكاملة المتساوية، لا تُعرِّف نفسها لا قوميًا ولا دينيًا، بل سياسيًا وحقوقيًا، وتعيد الاعتبار للحياد القانوني للدولة تجاه معتقدات وهويات أفرادها، دون تمييز إيجابي أو سلبي.
الدولة المدنية هنا لا تعني إزالة الهويات، بل تحريرها من سلطة الدولة، ومنحها مجالًا للتعبير الفردي والجماعي في إطار من الحماية القانونية لا الامتياز المؤسسي. والاتحادية ليست تقسيما أو تقسيمًا، بل طريقة لضمان التمثيل المتكافئ لمجتمعات متعددة داخل دولة واحدة، دون اختزالها في أغلبية عددية أو سطوة تاريخية.
إن إعادة تشكيل فلسطين التاريخية بوصفها دولة مدنية اتحادية ليست نزوة طوباوية، بل ضرورة وجودية في ظل الانسداد القاتل الذي تفرضه النماذج الحالية. هي المشروع الوحيد الذي يمكنه أن يحتوي اليهودي والعربي، المتدين والعلماني، اللاجئ والمستوطن، في فضاء واحد لا تذوب فيه الفروق، ولا تتسلط فيه الهويات.
المشروع المدني لا يحتاج إلى انتصار طرف على طرف، بل إلى هزيمة مشتركة للأنظمة القديمة، وإعادة تأسيس لكل المفاهيم: من الوطن إلى السيادة، ومن الحقوق إلى السلطة. الدولة المدنية الاتحادية لا تبدأ بمرسوم ولا تتأسس بانتخابات فقط، بل بولادة وعي جديد لدى الجانبين، يقتنع فيه الفلسطيني أن نضاله لا يكتمل إلا بتحرير اليهودي من أُسطورة التفوق، ويقتنع فيه اليهودي أن أمنه لا يتحقق إلا حين يكون الفلسطيني مساويًا له أمام القانون.
في هذا الأفق فقط يمكن الحديث عن عودة اللاجئين لا بوصفها تهديدًا ديموغرافيًا، بل كحق طبيعي في دولة لا تُعرّف نفسها إثنيًا. ويمكن عندها الحديث عن نزع السلاح بوصفه تحررًا من الهوس الأمني، لا خيانة. كل ما عدا ذلك هو إعادة إنتاج للمأساة نفسها بأقنعة مختلفة، وإطالة لأمد النزاع الذي لم يعد مجرد قضية فلسطينية، بل عار أخلاقي معولم.
المشروع المدني ليس بديلا عن الحقوق، بل هو تمكينها. وليس بديلا عن التاريخ، بل تخطيًا لعقده. وهو ليس تسوية وسطى، بل تأسيس لعدالة جديدة لا تستند إلى توازن القوى، بل إلى توازن القيم.
بهذا المعنى، لا يمكن أن تُحلّ القضية الفلسطينية دون تفكيك البنية الذهنية التي تحكم طرفي الصراع، ودون نزع القداسة عن الدولة، وعن الأرض، وعن السلاح، لصالح قداسة الإنسان، وكرامته، وحريته في أن يكون مواطنًا كامل الحقوق، لا حاملًا لعبء هوية قاتلة.