ابتداءً فإن منح الأستاذ الدكتور تركي عبيدات ثقته لي بتحرير محتوى كتابه القيّم والذي عنونه بـ (المسار) وإخراجها بكتاب يضم سيرته الوضّاءة وبكل ما تحفل به من صور ومشاهد وذكريات وانجازات، أمر يعتبر في سياقه الشخصي، شرف عظيم وإضافة نوعية على طريق ما بدأت به قبل سنوات، حين عكفت على خوض غِمار تجربة توثيق سير حياة ثُلّة من رجالات الدولة عبر مراحل زمنية متعاقبة من تاريخها المجيد، ولكنه في إطاره العام كان تكليفًا كبيرًا وضعني أمام مسؤولية عظيمة تبينت لي عقب أول لقاء جمعني بالرجل في الثامن عشر من كانون الأول لسنة 2021، ولعلي كنت أبدو أمامه مترددًا من المضي في التجربة إذ عرفت أن في (مساره) الكثير مما سيكتبه والذي جزمت حينها أن فيه ما "ينفعُ الناسَ ويمكثُ في الأرضِ"، وهكذا كانت الحقيقة التي وقفت عليها في عجالة إن حياة هذا الأردني النبيل وابن العبيدات الأصيل هي شريطٌ بانورامي يتفرّع منه قلبٌ خافقٌ وعرقٌ نابضٌ بمحبةِ وطنه وأبنائه، وضميرٌ مُشبعٌ بالحقّ والحقيقةِ، وكأنّي به يناجي ربّ العزة بقوله تعالى: "وقلْ ربّي أدخلني مُدخل صِدق وأخرجني مُخرج صدق واجعلْ لي من لدنكَ سلطانًا نصيرا" (الإسراء :80").
خرج المسار إلى النور في الحادي والعشرين من تموز من العام الجاري 2025، في حفل إشهار مهيب أمّه نخبة واسعة من رجالات الدولة من السياسيين والأكاديميين والإعلاميين ووجوه ناظرة تمثّل فئات من عشائر أردنية من مختلف مناطق المملكة، التقت على محبة واحترام الدكتور تركي عبيدات الذي ظلّ على امتداد عقود مسيرته العملية وحضوره الاجتماعي متمسكًا بكل ما عرفه الناس عنه من التزام بقيمٍ ومُثل ومبادئ شكلت معينًا خصبًا وموردًا عذبًا كانت هي المكوّنات التي دخل من خلالها إلى قلوب عامة الناس وخاصتهم، وعندما وجّه إليهم دعوته الكريمة لحضور الحفل البهي ما كان منهم إلا لبّوا الدعوة محبة واعتزازًا بعلاقة وثيقة ارتبطوا فيها بالدكتور عبيدات في نسيج متراص هو خير ما نفخر به في أردننا الحبيب على هيئة وحدة وطنية عزّ نظيرها في بلاد غير بلادنا.
انتهى الاحتفال، ولم تنتهي الإشادات بالكتاب، ولو أنني على المستوى الشخصي لم أُفاجأ بالكتابات والتحليلات التي تناول كاتبوها (المسار) كلٌّ من وجهة نظره، لأنني الأعرف والأكثر اطلاعًا على المضمون الراقي والمحتوى المتميز بين طياته بكل ما جادت به ذاكرة الدكتور تركي من مشاهد وصور وأحداث أتى عليها وكأنها قد وقعت للتوّ ولم يمضي عليها زمنًا طويلًا، مما يجيز القول أن كتابه كان شهادة حيّة على العصر وعلى حقب عديدة مرّت بها دولتنا الأردنية التي رأى أنها كانت قادرة على تجاوزها في كل مرحلة بهمّة قيادة هاشمية وعزيمة شعب وإيمانه بوطنه وبالرسالة التي استودعها الله في عنق الهاشميين، وهكذا يقدم المسار توثيقًا حقيقيًا أظنّ ومعي الكثيرين أننا بأمس الحاجة إليه في هذه الآونة التي يزداد فيها افتراء المتقولين والمشككين بمواقف المملكة، وعليه فإن ما جاء بالكتاب كان جديرًا بالاهتمام من كل زاوية، وحسبي بأبي قصي فهمًا وثقافة عندما أشار إلى عمق رسالة الأستاذ الجامعي المناط به الأخذ بيد شبابنا للطريق السوي الذي ينأى بهم عما يواجههم من تيارات هدّامة يحاول أصحابها التأثير على عقول الناشئة وإفراغها من كل ما هو مفيد ونافع لهم.
في المسار تجربة وملاحظة وفكر وكينونة شاملة، وهو عبارة عن مذكرات وسيرة حياة كما اعتقد الدكتور تركي عبيدات ورأى أنه عاشها هو، وهكذا بدا المسار كقصة أو رواية ممتعة من نوع خاص عبّر فيها عن تجربته، فجاءت دقيقة كحدّ السيف بكل ما يجسده من ارتقاء وأفق وأمل.
مطالعة كتاب المسار وقراءته بعناية مسألة جادة تستحق التأمّل، لأخذ العبرة والفائدة وللوقوف على سيرة إنسان لم يولد وفي فمه ملعقة لا من ذهب ولا من فضة بقدر ما كانت العصامية سلاحه، ونظرته إلى مستقبل علمي وعملي باهر، هاجسه، وفي كل فصل من الفصول التسعة "فاكهة" من نوع خاص يتلذذ بها القارئ مع فنجان قهوة أكان احتساه في الصباح أو في المساء، وفي كل سطر حكاية وفي كل صفحة رواية، ويبقى التأكيد على ما يلمسه المتتبع لموضوعات الكتاب إن الدكتور تركي عبيدات رجل منتمي إلى وطنه ويحب قيادته الهاشمية لكن الانتماء والولاء بنظره أمر مقترن بالعمل وبعيدًا عن كل البعد عن الشعارات الفارغة والكلمات الرنانة.