سوريا ما بين الرماد الروسي والضباب الأميركي
فراس النعسان
05-08-2025 11:29 AM
ثمة تقارب لا يُعلن عن نفسه بمصافحات علنية، بل بتثاؤب الجغرافيا وحنين التاريخ. فموسكو لا تزور دمشق كما يزورها السياح، بل كما تعود الذاكرة إلى مهدها، وكما يعود القيصر ليُرمم ما تبقى من المجد الإمبراطوري على أنقاض جمهوريات محروقة وخرائط ممزقة. ودمشق، التي لطالما وقفت في تقاطعات المصالح الكبرى، لم تكن يومًا وحدها. فالمدن التي تقع في قلب الصراع لا تعرف العزلة، بل تتحول إلى مرايا تعكس وجوه القوى التي تتناوب على استثمار ألمها، أو هندسة مآلاتها.
روسيا، إذ تقترب من سوريا مجددًا، لا تفعل ذلك حبًا، بل حسابًا. فالدبّ لا يعانق إلا إذا شعر بالبرد، ولا يتحرك إلا حين يجد في الحركة مكسبًا استراتيجيًا. منذ سقوط جدار برلين، وموسكو تحاول أن تستعيد وزنها النوعي في لعبة الأمم، وأن تخلع عباءة الدولة المنكفئة على نفسها، وتلبس جلد القوة التي تتقن اصطياد الفرص في الفوضى. وسوريا، بما تمثّله من موقع، وتاريخ، وثقل جيوسياسي، تبدو اليوم أقرب إلى بوابة روسية نحو المتوسط، وورقة قابلة للاستخدام في مفاوضات متعددة الاتجاهات، تبدأ من كييف ولا تنتهي في فيينا.
في خضم هذا الحراك، تبرز شخصية أحمد الشرع، ليس كصدى لسياسات مفروضة، بل كلاعب يدرك خريطة الطاولة. فهو لا يذهب إلى موسكو وفي يده استسلام، بل على كتفيه مشروع إعادة التوازن. الشرع، بخلفيته المركّبة ومزاجه البارد، لا يتحرك بعفوية اللحظة، بل بنظرة متأنية نحو ما يمكن لسوريا أن تستعيده في لعبة المصالح، إذا أحسنت التموضع دون الوقوع في فخ التبعية. فالتقارب، كما يراه، ليس ارتماءً بل توازن، ولا يعقل أن يُستبدل الارتهان الغربي بآخر شرقي دون تمحيص. إنه يسعى إلى استثمار الحضور الروسي في إعادة تدوير الدور السوري، لا تجميده.
الولايات المتحدة من بعيد تراقب المشهد بعيون تتقن قراءة الخرائط لا العواطف. فهي تعرف أن سوريا المنهكة قد لا تشكل تهديدًا مباشرًا، لكنها تدرك أيضًا أن كل تقارب روسي في هذه الرقعة من الأرض هو خصم إضافي على طاولة الصراع العالمي. واشنطن التي استنزفتها أوكرانيا، وأربكها الداخل، لم تعد تنظر إلى الشرق الأوسط كما كانت تفعل قبل عقد. لكنها تحتفظ بحساسية مفرطة تجاه ما قد يُفضي إلى كسر النفوذ الأميركي المتراكم، خصوصًا حين يقترن باسم بوتين، الذي تحوّل إلى نقيض رمزي لكل ما تمثّله واشنطن في هندسة النظام العالمي.
أما إسرائيل، فقراءتها أكثر براغماتية. لا تعنيها العواطف في دمشق، ولا التحالفات إلا بقدر ما تمس أمنها الجوي ومصالحها الاستراتيجية. فهي تراقب التنسيق الروسي السوري، كما تراقب مسار طهران في الساحة ذاتها. وما يزعجها ليس مجرد وجود بوتين على الساحل السوري، بل احتمالات أن تتحول سوريا إلى ملعب مغلق أمام سلاحها الجوي. فروسيا التي تمسك بمفاتيح الدفاعات، قادرة، إن أرادت، على تقليص هامش المناورة الإسرائيلية. لكن تل أبيب، التي تتقن العزف على أوتار العلاقات المعقدة، لا تقطع الخيط ما دام لم يُمسّ عمقها.
تركيا، بدورها، لا تملك رفاهية الغياب. فهي على تماس مباشر مع الجغرافيا السورية، وتخشى أن يؤدي التمدد الروسي إلى تقليص مساحتها في أي تسوية مستقبلية. وعلى الرغم من العلاقة المتقلبة بين أنقرة وموسكو، إلا أن المصلحة وحدها ما زالت تملي الإيقاع. فتركيا تدرك أن أي تقارب روسي سوري قد يؤثر في موازين القوى على حدودها الجنوبية، وخصوصًا في ما يتعلق بالملف الكردي، حيث تتقاطع حساسية الأمن القومي التركي مع تعقيدات العلاقة الأميركية الكردية.
وسط هذا الزحام، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل في هذا التقارب خير؟
الجواب لا يُختصر بعبارة تفاؤلية أو تشاؤمية، بل يُقرأ في سطر المصالح المتبادلة. فإذا استطاعت دمشق أن تفرض شروط شراكة لا تبعية، وإذا نجح أحمد الشرع في إدارة التوازن بين القوى، فإن في الأمر خيرًا مرجّحًا لا مؤكدًا. أما إذا كان التقارب مجرد نكاية بالغرب، أو ردة فعل على انسداد الأفق، فإنه سيقود إلى مآلات مغلقة، تُعيد إنتاج العزلة من بوابة أخرى.
إن المشهد أكبر من عناوين الصحف، وأعمق من تصريحات المؤتمرات. فروسيا لا تمنح شيئًا بلا مقابل، وواشنطن لا تغيب إلا لتعود بثقل مضاعف، وإسرائيل لا تهدأ إلا إذا ضمنت السيطرة، وتركيا لا تنام إلا في ظل التوازن. وفي قلب هذا كله، تحاول دمشق أن تنهض من ركامها، وتبحث عن موقع لا يُراد لها أن تصل إليه.
ولعل أحمد الشرع يدرك أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا كخدعة، وأن اللحظة لا تمنح كثيرًا من الفرص، لكنها قد تكفي لتغيير مسار، إذا امتلكت الجرأة، وفهمت لغة المصالح، واحترمت حسابات الجغرافيا في زمن الخرائط السائلة.