الانقبار الرقمي: الموت خلف الابواب وشاشات الهواتف
د. محمد حيدر محيلان
05-08-2025 02:02 PM
كنا قبل الرقمنة نمشي ونحكي ونكتب ونلعب ونركض ونتزاور ونذهب للسوق وللبنك وللمول وللسينما والمطعم والمستشفى ونلتقي مع اعزائنا واصدقائنا القدامى ونتعرف على جدد....
لم نعد نتلاقى في الفرح والحزن والاعياد والمناسبات فاختفى كل شيء فجأة.. وناب عن طيب لقيانا الهاتف والسوشال ميديا والرقمنة والتكنولوجيا السريعة... واصبحنا نؤمن بالسرعة .. ابتداءً من الوجبة السريعة الى التشخيص الطبي عبر (الجات جي بي تي)والذكاء الاصطناعي الى التعزية والمواساة السريعة ، حيث اصبحنا نقرا اعلانات نعي ووفاة، (تختصر العزاء على الهاتف والتراسل فقط) ولا ديوان عزاء ،وكذلك قريبا ستكون التهنئة بالاعراس والمناسبات فقط عبر الهاتف والمسجات، وحتى من كنت تراه فقط بالعزاء والافراح لن تراه مجددا.
كل هذه القيم الجديدة التي تتسم بالسرعة ألقتها علينا الرقمنة والهَوْتَفة الرقمية.. ونحن يَسُرُنا ذلك، حيث لا وقت لدينا ونشكو من قلة الوقت وزحمة الواجبات ، ولكن من غير انجاز ولا انتاجية ولا تقدم قيد انملة تذكر....
هل كنا نظن أن التطور سيحملنا الى العزلة؟
من كان يتوقع أن تلك الأجهزة الصغيرة التي حملناها في جيوبنا ستقودنا وتوجهنا وترشدنا وتلهمنا وتوقع بيننا البغضاء والشحناء والمنكر؟
هل كنا نظن ان الرقمنة والهوتفة ستعيد تشكيل العالم من حولنا ، وتعيد تشكيل القيم الاجتماعية والاقتصادية والمادية؟ اصبحنا نتواصل عن بعد بلا بشر، ونتصادق عن بعد بدون مشاعر حقيقية ، ونتعارك عن بعد على منشور تافه ، وصرنا نصل بلا طرق، ونتخاطب بلا أصوات، ونتآخى بلا دفء ولا مودة ولا رحمة؟!
واصبحت الاشياء والاماكن التي كنا نرتادها ونذهب اليها تأتي إلينا مع كبسة زر ..الاكل والشرب واللبس والاشياء، حتى الزوجات وشريك الحياة الذكي اصطناعيا ، اصبح متاح عبر التطبيقات ويأتي اليك مصندقا بلا حياة ويعمل على كبسة زر ، كل ما تشتهي يصلك بكبسة زر ، حتى المقابر التي كنا نذهب اليها لنتدافن صارت في بيوتنا وفي غرفنا فلا نخرج منها الا للحمام وقد نتواصل مع الحمام رقمياً فلا نخرج من الفراش ان شئنا..
صرنا
ننكفئ على أنفسنا يومًا بعد يوم، لأننا اعتدنا وأدْمنّا الكسل والعجز والسرعة والأمان الوهمي خلف الأبواب المغلقة.
غابت خطواتنا عن الأرصفة، وانطفأت وجوه الناس من المقاهي والشوارع.
صار لكل فرد عالمٌ رقميٌّ خاص، لا يتقاطع فيه مع أحد، إلا عبر شاشة مضاءة وابتسامةٍ مرسومة باهتة وحتى وهمية.
هل تأملت بيتك؟
كلٌ في غرفته يعمل عن بُعد، والأم تطلب الطعام من تطبيق أونلاين، والأبناء بين هاتفٍ ولعبةٍ وعالمٍ افتراضي لا قرار له.
أما اللقاء، فصار بالصورة، وأما السلام، فصار ملصقًا، وأما السؤال عن الحال… فمؤجل إلى حين.
نعم، لقد سرقتنا التكنولوجيا من أنفسنا.
سرقتنا من الحركة، من العفوية، من اللقاء، من الحياة.
كنا نذهب إلى السوق فنرى الناس، إلى البنك فنلتقي الغرباء، إلى البقالة فنمارس شيئًا من التفاعل، نخطئ ونتعلم، نتأخر ونعتذر، ننتظر ونضحك، نعيش الحياة بحق بكل ما فيها.
أما اليوم، فقد أصبحت كل تلك التجارب "طلبًا" يصل إلى بابنا، أو رسالةً تصل إلى هاتفنا.
تعلمنا الكسل دون أن نشعر.
زاد وزننا، وثقلت نفوسنا، وتراكمت أمراض الجسد والوحدة، وتراجعت فينا الحياة الطبيعية لصالح حياةٍ صناعية اليكترونية تموت مع انطفاء الشاشة.
وليست التكنولوجيا شرٌ محض، بل هي ضرورة العصر، وهي الوسيلة التي يسّرت لنا الكثير، وساهمت في تطوير الطب والتعليم والعمل والمعرفة...
لكن الحقيقة التي يجب ألا تغيب: أن الإنسان أهم من الآلة، وأن صحته النفسية والجسدية أهم من أي تطبيق أو جهاز ذكي.
دع لكل وقت حالته، ولكل مرحلة طبيعتها.
نحن الآن أحياء، فلنحيا.
فلنخرج، لنمشي، لنضحك، لنتعب قليلًا ونعيش كثيرًا.
غدًا لن نستطيع ان تغادر حفرتك، غدًا سنُدفن… والقبور تنتظر، فلا تستعجل الانقبار وأنت على قيد الحياة.
الحياة لا تُعاش في الظلال وفي امتار مربعة ، ولا تُختصر في إشعارات ومسجات وصور.
العمر فانٍ، واللحظات لا تتكرر فاخرج الى الحياة وتحرر من الانغلاق الجسدي ومن سجنك الذاتي المقيت..