الهلال الرخو وتفكيك الشرق: السردية الإسرائيلية الجديدة ومآلات الدولة العربية
صالح الشرّاب العبادي
08-08-2025 11:12 PM
من غزة إلى الخرائط الخفية
لم تكن غزة في السابع من أكتوبر 2023 مجرد ساحة معركة، بل كانت — دون مبالغة — نقطة كشف استراتيجي لطبقات عميقة من الصراع في الشرق الأوسط. فقد ظهرت حركة المقاومة على السطح كرأس جبل جليدي ضخم، يُخفي تحته صراعات متداخلة بين ثلاثة محاور رئيسية تتسابق على رسم شكل المنطقة الجديد:
1.محور السلام الدبلوماسي: يتبنى حلّ الدولتين ويُعلي من منطق التسوية.
2.محور التقارب التطبيعي بقيادة إسرائيل وبرعاية أميركية، يسعى لدمج تل أبيب في الإقليم مقابل منافع اقتصادية وأمنية وعقائدية ( اتفاقات أبراهام) .
3.محور المقاومة والرفض: يهدف إلى تغيير معادلات القوة لا التكيّف معها.
جاءت عملية “الطوفان” من غزة كضربة صادمة لكل من كان يعتقد أن المشهد مستقر، لكن الواقع كان أعمق بكثير. فالمعركة لم تكن بين غزة وإسرائيل فقط، بل في جوهرها صراع على من يمتلك السردية ومفاتيح الهيمنة في الشرق الأوسط الجديد.
غزة تحولت إلى سردية حرب طويلة تتخللها فصول تبدأ وتنتهي، ولكن حرب غزة لا تنتهي.
المرحلة الأولى: تفكيك الدولة القوية — العراق كنموذج أول
بدأت الاستراتيجية الكبرى عام 2003 مع احتلال العراق، الذي لم يكن مجرد بلد بجيش كبير، بل كان:
أحد أعمدة الردع العربي ضد إسرائيل.
صاحب ترسانة صاروخية متنوعة.
يمتلك قدرات تسليحية شرقية وغربية.
الأهم من ذلك: إرادة سياسية مستقلة تتحدى الترتيبات الغربية والإسرائيلية.
تم استهداف العراق بشكل شامل:
تفكيك الجيش.
تدمير البنية الأمنية.
إحلال الطائفية محل الهوية الوطنية.
تذويب القرار السيادي.
فتح ذلك الباب أمام الهلال الإيراني للتمدد من بغداد إلى دمشق فبيروت، وسط وهم أن هذه الميليشيات قد تكون “جيوشًا بديلة” تردع إسرائيل. لكن واشنطن وتل أبيب كانتا تدركان أن هذه الأذرع ليست سوى أهداف مؤجلة ضمن بنك أهداف يُصفّى ويهجن لاحقًا عند الحاجة ..
المرحلة الثانية: تحييد الجوار وبناء شبكة التطبيع
بينما نُهِكَت دول الطوق، عملت إسرائيل على استراتيجية موازية: تحييد الدول المحيطة باتفاقيات دبلوماسية واقتصادية وعقائدية، من أبرزها:
اتفاقيات السلام من كامب ديفيد إلى أوسلو إلى وادي عربة، التي خرقتها إسرائيل مرارًا — وتقوّضها اليوم في الضفة الغربية ورفح.
اتفاقيات أبراهام والتطبيع الجديد مع دول عربية إضافية.
انفتاح متزايد مع دول عربية عبر بوابات أمنية واقتصادية.
في ظل هذا، تغيّرت النظرية العسكرية الردعية: لم تعد تقوم على وجود دول قوية بجيش وأسلحة متطورة، بل على دول ذات قوات أمنية وعسكرية دفاعية محددة المهام ، تعاني من لا استقرار دائم وتعيش تحت سقف منخفض من التسلح النوعي، مع تغذية الانقسامات الإثنية والطائفية تحت شعار الحريات.
لم تعد الاتفاقيات تبحث في “الأرض مقابل السلام”، بل تحوّلت إلى:
“الاستقرار مقابل المصالح المشتركة”.
دمج إسرائيل كشريك لا كعدو.
استبعاد القضية الفلسطينية من أي حل مركزي.
إعادة تعريف السلام على أنه: تنمية وتكنولوجيا وتجارة، لا عدالة سياسية.
النتيجة: تفكيك الرمزية الجامعة للعرب، عزل الفلسطيني، وتحييد الدول المحورية عن الاشتباك.
المرحلة الثالثة: الانقضاض على الأذرع — من الضاحية إلى السويداء
إيران اعتمدت على أذرع طويلة للدفاع خارج ساحتها، لكنها:
لم تكسب تأييد الشارع العربي ولا السلطات الرسمية (مع استثناءات محدودة).
أبقت على المنطقة فوق صفيح ساخن بتغذية الصراعات المذهبية والجهوية.
لعبت ورقة السلاح النووي كورقة تفاوض لسنوات دون إنتاج فعلي.
بينما توسعت أذرع إيران في سوريا ولبنان واليمن والعراق، كانت إسرائيل تعدّ بنك أهداف نوعي:
ضربات جوية على مطارات دمشق.
اغتيالات دقيقة في العراق ولبنان وسوريا.
تفجيرات في المنشآت النووية الإيرانية.
قصف مخازن الحشد الشعبي.
عمليات استخبارية في عمق إيران.
عيد في اليمن (الحديدة، صعدة) دون ردع حقيقي.
ثم جاءت غزة كفرصة استثنائية لضرب المحور بكامله، تحت غطاء:
“سردية الدفاع عن النفس والعيش بسلام جنبًا إلى جنب مع دول الشرق الأوسط العربية ، والتي بدأت بدون ان يكون لها اجل معين منطقة إلى منطقة ومن مدينة إلى مدينة حتى اصبح الاحتلال هو الهدف الرئيسي بعد أن تلاشت وفشلت معظم الاهداف الأخرى والتي لا يمكن تحقيقها إلا بالاحتلال الكامل والسيطرة طويلة المدى ، يتخللها سردية هدنة لا ولن تتم .
فتوالت الهجمات على الضاحية الجنوبية، وقُصفت السويداء بحجة حماية الأقليات، وتصاعدت عمليات “جزّ العشب” ضد حزب الله، واشتدت الضربات ضد الحوثيين، بينما تحوّلت سوريا إلى ساحة تصفية يومية — وكل ذلك بغطاء أميركي وصمت دولي.
المرحلة الرابعة: الضفة الغربية — الفصل الذي لا يُروى
بينما تُسلّط الأضواء على غزة، يجري في الضفة الغربية تغيير جغرافي ديموغرافي غير مسبوق:
تصاعد غير مسبوق في الاستيطان.
طرق ومستوطنات تُجزئ المدن الفلسطينية.
تآكل سلطة رام الله.
ضم فعلي لأراضٍ واسعة بحماية الجيش الإسرائيلي.
تهجير داخلي قد يفضي إلى تهجير خارجي.
أما دول المحور:
تركيا تكتفي بالخطابة، بينما تحافظ على مصالحها مع إسرائيل والغرب.
روسيا تغضّ الطرف عن إسرائيل مقابل السكوت الأميركي عن أوكرانيا.
اوروبا مشغولة بقرارات ترامب، وأزمة الغاز الروسي.
بريطانيا… رأس الحية، تُخطط ليُنفّذ الآخرون.
الهدف النهائي:
جعل “حل الدولتين” مستحيلًا واقعيًا، مع إبقاء ساحة الدبلوماسية حيّة فقط لأغراض العلاقات العامة.
نحو سردية جديدة للشرق الأوسط
إسرائيل لم تعد تكتفي بحماية حدودها، بل أصبحت:
اللاعب المركزي في أمن المنطقة، تتحرك من غزة إلى جنوب لبنان إلى السويداء، وتضرب حيث تشاء.
شريكًا اقتصاديًا ودبلوماسيًا في قلب العواصم العربية.
صانعًا خفيًا لترتيبات ما بعد الحروب.
صاحب اليد العليا في موازين الردع والتطبيع.
لكن هذا الصعود ليس بدون كلفة؛ فالمشهد يقف على حدّين:
إما ترسيخ إسرائيل كقوة ردعية فوق الجميع،
أو انفجار غير تقليدي يعيد خلط الأوراق بطريقة غير متوقعة.
اخيراً
لم تعد القضية الفلسطينية مجرد صراع حدودي، بل باتت مقياسًا لميزان قوى إقليمي ودولي، تتقاطع فيه الأساطيل، والسرديات، والعقائد، والاستراتيجيات الكبرى ، والمصالح المتبادلة او المفروضة بالمقابل ..