قطاع الإنشاءات .. أزمات متراكمة وحلول تبدأ بإدارة المشاريع
م. لينا القاسم
09-08-2025 01:06 PM
منحني رئيس الجامعة الأردنية الدكتور نذير عبيدات فرصة مدهشة في سياق برنامج "الاستعداد الوظيفي" والذي قمت من خلاله بالتشرف بإعطاء محاضرتين متتاليتين لطلاب كلية الهندسة التي تخرجت منها قبل عشرين عاما، لأشرح لهم عن تلك الفجوة بين النظرية والتطبيق، بين الأكاديميا وواقع سوق العمل.
إعدادي لما كنت سأتحدث به أمام الطلبة، جعلني أحفر كثيرا في تجربتي المهنية، ورحلة العمل التي جعلتني أكتشف "بالتوازي" واقع قطاع الإنشاءات والمقاولات المرتبط بعملي كمهندسة أدير شركة هندسية معنية بإدارة المشاريع والإنشاءات.
لبيان الفكرة وتوضيح الواقع كان لا بد لي أن أضع إطارا زمنيا لذا سأشرح واقع هذا القطاع في الخمس سنوات الأخيرة.
على امتداد تلك السنوات الخمس، تحديدًا منذ عام 2020، واجه قطاع الإنشاءات والمقاولات في الأردن أزمة ممتدة تتعدد أوجهها بتحديات مركبة من بينها تحديات مالية، وتنظيمية، وتشريعية، وهيكلية،مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قطاع حيوي في الدولة، لطالما كان من ركائز الاقتصاد الأردني، وقد بات اليوم في مواجهة مفتوحة مع خطر التراجع الشامل، إن لم نقل على حافة الانهيار.
وفي قلب هذه الأزمة، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة تعريف العلاقة بين القطاعين العام والخاص، وتحديث التشريعات، وتمكين الكفاءات المحلية، وعملية التمكين هذه لا تعني التعليم الجامعي والأكاديمي وحسب، بل تأهيل المتعلمين بالمهارات الرقمية والمعرفية الحديثة جدا، لكن يبقى العنصر الغائب الأكبر، الذي إن وُجد تغيّر المشهد جذريًا، هو ثقافة إدارة المشاريع، وهو ما أعتبره الحلقة المفقودة بالقطاع.
أزمة ممتدة منذ 2020
جاءت جائحة كورونا عام 2020 لتشكل الضربة القاسية لهذا القطاع، حيث أدت الإغلاقات ووقف المشاريع إلى شلل شبه كامل في الأعمال، وبمراجعة سريعة لتصريحات ممثلي القطاع، والتي يمكن ان نجدها ببساطة في تقارير الصحف الأردنية، فقد تراجعت أعمال شركات المقاولات بنسبة تجاوزت 60% في العام الأول للجائحة، وتعمّق هذا التراجع لاحقًا مع الانكماش الاقتصادي العام.
منذ ذلك الحين، لم يتعاف القطاع بالكامل، إذ تشير تقديرات نقابة المقاولين الأردنيين إلى أن ما نسبته 70% من الشركات المسجلة فعليا أصبحت خارج سوق العمل، أي أن 7 من كل 10 مقاولين لا يعملون حاليًا في أي مشروع. وهذا يعني أن النشاط الحقيقي ينحصر في 30% فقط من السوق، ونتيجة لذلك، ارتفعت معدلات البطالة في القطاع، وتراجعت القيمة المضافة التي يوفرها، علمًا أنه كان يوظف سابقًا أكثر من 160 ألف عامل ومهندس.
ولم تسلم حتى الشركات الكبرى من آثار الأزمة، فقد شهدنا في السنوات الماضية هبوط شركات إنشائية كبيرة كانت تعد من أعمدة السوق المحلي، بل وعلى مستوى الإقليم، بسبب تراكم الخسائر وتعطل المشاريع، وتأخر المستحقات المالية.
أحد أبرز أوجه الأزمة يتمثل في تأخر صرف المستحقات المالية من الجهات الحكومية للمقاولين، فهناك شركات كثيرة لم تأخذ مستحقاتها حتى بعد تنفيذ المشاريع، وبعضها حصل على أحكام قضائية أو قرارات تحكيم، لكنها لم تُنفذ حتى اليوم.
وتقدّر نقابة المقاولين أن هناك مستحقات مالية متراكمة تُقدَّر بعشرات الملايين من الدنانير لم تُصرف، ما أدى إلى شلل السيولة داخل الشركات، وأفقدها القدرة على دفع رواتب العاملين وسداد الالتزامات للبنوك والموردين.
هذا التأخير في الدفع لا يضر فقط بالشركات، بل يخلق حالة ارتباك في السوق، ويدفع المقاولين للجوء إلى القروض البنكية، ما يراكم أعباء الفوائد ويُفاقم المشكلة، وقد اضطرت بعض الشركات لإغلاق أبوابها أو تقليص أعمالها بشكل حاد.
ومن التحديات الكبرى التي يواجهها القطاع أيضًا، تعدد الجهات المرجعية، فالمقاول الذي ينفذ مشاريع في مجالات مختلفة (مياه، كهرباء، بلديات، أشغال) يضطر للتعامل مع أكثر من جهة رسمية، وكل جهة لها شروطها وكفالاتها ومتطلباتها.
هذا التشتت يخلق فوضى إدارية، ويبعثر الجهد، ويؤدي أحيانًا إلى تعارض في المعايير، وقد طالبت نقابة المقاولين بإنشاء هيئة موحدة للبنية التحتية لتكون مرجعية واحدة للمشاريع، وهو مقترح يحظى بتأييد المهنيين، لكنه لا يزال قيد الدراسة في الأدراج الحكومية.
حتى الجانب الاستشاري لم يكن بمنأى عن الأزمة، فالمكاتب الهندسية، البالغ عددها نحو 1330 مكتبًا مسجلاً في الأردن، شهدت أيضًا تراجعًا كبيرًا في حجم الأعمال، كما يعاني العديد منها من تهميش في المشاريع الكبرى، في ظل تفضيل بعض الجهات الرسمية والخاصة التعامل مع شركات استشارية أجنبية.
هذه السياسة التفضيلية غير المنصفة، تهدد مستقبل المكاتب الهندسية المحلية التي تُصدر خدماتها إلى الخارج وتحقق دخلًا يزيد عن 100 مليون دينار سنويًا من الاستشارات الهندسية، دون تكلفة تذكر على خزينة الدولة.
إدارة المشاريع.. بوابة النجاة
خلاصة القول، ومن خبرتي كمهندسة تدير مؤسسة هندسية في الأردن، فإن أهم ما تعلمته طوال عشرين عاما في العمل، مع كثير من المشاريع التي خضتها مع زملاء في الأردن وخارجه، أن هناك دوما فجوة بين أطراف كل مشروع لا بد من ملئها لتفكيك التداخلات جميعها، وهنا يبرز مفهوم إدارة المشاريع كأحد أهم الأدوات لإنقاذ القطاع من الانهيار، فالكثير من المشكلات – من تجاوز التكاليف، إلى تأخير التسليم، إلى ضعف التنسيق – ناتجة في جوهرها عن غياب منهجية علمية لإدارة المشاريع.
إدارة المشاريع تعني وجود خطط زمنية دقيقة، ميزانيات مرنة، تقييم للمخاطر، وضبط للتكاليف والجودة.
وهي أيضا تعني أن تكون الشركة قادرة على التنبؤ، التصحيح، والتفاعل الذكي مع المعطيات، وهذا يتطلب بناء وحدات متخصصة داخل الشركات (PMOs)، وتدريب الكوادر الهندسية والإدارية على أدوات الإدارة الحديثة، فمشروع دون إدارة جيدة هو مشروع مرشح بقوة للفشل، مهما بلغت نوايا الأطراف حسنة.
إن قطاع الإنشاءات في الأردن لا ينهار، لكنه يئن، ويملك كل أسباب التعافي إن وُجدت الرؤية والإرادة، ومن بين كل الأدوات الممكنة، تبقى إدارة المشاريع بوابة النجاة الأذكى والأكثر كفاءة.
لا يمكن أن نعيد بناء الثقة، وتحفيز الاستثمار، وضمان استدامة القطاع، إلا عبر إدماج هذا المفهوم في قلب كل مشروع، وكل شركة، وكل جهة مشغّلة.
فمن إدارة المشاريع يبدأ الإصلاح، ومنها يولد الأمل. وعلى الدولة التي نعتز بها جميعا وهي تفتح بوابات الإصلاح في كل المستويات، أن تقر بأن المستقبل لا يُبنى فقط بالحجارة، بل أيضًا بالعقل الذي يدير عملية البناء نفسه.