ورشة غزة الإبداعية: ثورة الوعي
د. موسى برهومة
09-08-2025 04:21 PM
ستضع الحرب على غزة أوزارها، ونرجو أن يكون ذلك "اليوم، اليوم، وليس غداً". بيْد أنّ الذي لن يضع أوزاره فهو الوعي الذي يتعين أن يظل، كما تقول الأغنية القديمة" صاحياً": "خلي السلاح صاحي". فالوعي لا يجوز له أن يغمض، أو أن تأخذه سِنة من نوم، لأنّ الثأر التاريخي لا يحتمل ذلك. السلاح الصاحي في الأغنية استسلم إلى غفوة طويلة، فكانت الهزيمة العسكرية، وأصبحت بلادنا محتلة أو تكاد. انهزمت الجيوش، لكن لم تنهزم النفوس.
من ثقب الوعي الضيق، ستتناسل الحقائق الواسعة والوقائع الدامغة. وميدان معركة الوعي هو الإبداع بشتى حقوله، بهدف تدشين رواية تعبّر عن لسان الضحايا في غزة الذين ماتوا ألف مرة، وربما يموتون بداء فتاك اسمه النسيان. ولكيلا يبقى الغزيون موتى في الحياة وفي التاريخ يتعين للإبداع أن يكون الترياق الذي يشفي لو جزءاً من عذابات تحتاج إلى لغة جديدة لوصفها.
تفجير اللغة
وحينما ندعو إلى حاجتنا للغة جديدة، ففي ذلك إقرار بعجز اللغة عن التعبير عما جرى ويجري في غزة. اللغة ضاقت بسجن حروفها الثمانية والعشرين، لأنّ ذاكرتها "الطيبة المخصّبة بالبراءة" لم تتخيل زمناً اندلع فجر السبت 7 أكتوبر(تشرين الأول) 2023، وما انفكّ. نتحدث هنا عن خيال اللغة الذي يحتاج إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، ربما، من أجل تفجير اللغة، وهناك سيكون ميدان معركة الوعي التي يخطط لشنها المثقفون والفنانون والنشطاء، وكل من يمتلك أداة تكشف وتعري وتسجل شهادة عابرة للتاريخ. لا يمكن لما جرى ويجري أن يمر بلا توثيق. العدو يخشى الوثيقة والقرائن، لذلك يكسر الأقلام، ويحطم الأصابع، ويفقأ العيون، ويطفئ شعاع الكاميرا، وبريق الضوء الذي يدل على الدم.
الورشة؛ "ورشة غزة الإبداعية"، بدأت منذ هرست دبابة إسرائيلية عظم طفل فلسطيني وسوّته بالأرض في خانيونس، فكانت ثمة روايات، وقصائد، ومسرحيات، وأغنيات، ودراما، وسوى ذلك. النتاج ضئيل، بلا ريب، لكنّ ذلك ليس مؤشراً على تصلب الوجدان، بل هي مرحلة انتظار حتى يتقهقر العدوان، وتغرب الطائرات، وتصمت المدافع، حتى لو نُفذت خطة احتلال غزة.
الورشة المرتقبة يتعين أن تأتي في سياقات منظمة، وليس عفو الخاطر، كأن يكون هناك دور فاعل لاتحاد الكتاب والأدباء العرب، وللجمعيات والروابط والمنتديات الثقافية، وأن تكون هناك جوائز مرموقة مخصصة للتعبير (بمختلف أشكاله)، شريطة أن يتم ذلك في سياق إبداعي خلاق ينأى عن المباشرة التحريضية، والحماسة المؤقتة، والضجيج العالي. نرنو إلى كتابة تخترق الوجدان الإنساني، وترقى إلى توقعات الذائقة، وتستجيب لتقنيات العلم، وبلاغة الذكاء الاصطناعي.
معركة الذاكرة والوعي
غزة لن تنهزم، ولن تموت، فللباطل جولة وللحق دولة، وهذا ليس من إنشاء القول السقيم، بل هي منائر يتعين الاعتصام بها، لئلا تسود ثقافة الهزيمة. صحيح أنّ العتمة تكاد تكون دامسة، والشرّ قهاراً، ولكن في آخر النفق الطويل هناك نور يلحّ علينا: "لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه".
المعركة المقبلة هي معركة الذاكرة وثورة الوعي والخطاب الراديكالي الذي لا يهادن، ولا يمتثل لاشتراطات الظروف وحساسية التوازنات السياسية. الكتابة الآن إنما تكون بالسكين الحادة، لأنّ الانتقام يتعين، هذه المرة، أن يتفوق على الفعل (الذي تفوق في توحشه على المخيلة).
وفي غمرة ذلك، تغدو عملية الصفح عن القاتل أمراً مستحيلاً. ولا تقوى ذاكرة النسيان أن تقفز عن امتلاء الذاكرة عن بكرة أبيها برائحة الموت ويوميات الجوع، حيث قطرة الماء هي آخر ما تحلم بها الكتلة الأشبه بجسد، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.
ما عاناه الفلسطينيون، في غزة، يجعل دعوة مانديلا "نغفر ولا ننسى" أقرب إلى الترف، فالغفران ينطوي على ضرورة امتلاك الضحية القوة والحق، ومن ثم القدرة على التعايش مع الجلاد، والنظر باطمئنان إلى عينيه، ومشاطرته فسحة الهواء الذي كان قبل حين منقوعاً برائحة اللحم الآدمي المشوي.
الغفران، خارج الفسحة الدينية، أمر يتناقض مع الطبيعة البشرية التي تميل إلى القصاص، والعقاب، والملاحقة القانونية، والتعويض، والاعتراف العاري بالجريمة.
الصفح والغفران يستدعيان النسيان، والنسيان لا يكون إلا مصحوباً باعتراف صريح لا يخون ذاكرة الضحية، ويؤمّن لها النسيان الرغيد المعافى من الشظايا والثقوب والكوابيس التاريخية، وهذا لا يتوفر الآن في ظل هستيريا طبول الموت والهلاك في أوساط التطرف الذي يسري في عروق الكيان الصهيوني، بأطيافه كافة، ولا نستثني أحداً. لقد كشفت حرب الإبادة عن حقد لاهوتي توراتي متأصل في أيديولوجيا ترى في اقتلاع الآخر جزءاً من نداءات الرب، وتلبية لمشيئته، وصلاة مستغرِقة في معبده.
متراس لإخفاء الألم العميق
الحرب تجرّد الكائن من إحساسه، تعيد برمجته ليكون قاتلاً في اللحظة ذاتها التي تسيل فيها دماؤه. ألا تتعاطف يعني أن تبني متراساً خفياً بينك وبين الشعور العميق بالألم، أن تتجاوزه، وتهزأ به، وتلعنه في سرّك في علانيّتك. وفي هذه العملية ينمو، شيئاً فشيئاً ويرتفع، سورُ الكراهية. بالكراهية يحيا الضحايا. بالحقد تلتئم جراحاتهم. بالغضب الهادر الذي يكزّ على الأسنان والأعصاب يبرأ الذي رأى أهله يُقتلون. لا شيء يُشفي الغليل إلا الانتقام الفتّاك. الكلّ مستهدف، لأنّ حرائق القلب لا تكفّ عن طلب المزيد من الأجساد لتصهرهم في أتونها. القلب هنا يتحوّل إلى جهنم إن سُئلت هل امتلأت، تردّ: هل مِن مزيد؟
الورشة الإبداعية المنشودة، تدرك أنّ الحروب لا تنتهي بمجرد إعلان هدنة، أو اتفاق لوقف النار، مؤقتاً كان أم دائماً. بعض الجروح لا يُمحى، ويظل كالندبة التي لا تزول مع زوال الجسد، بل يتوارثها الأحفاد كالوشم، أو كالتميمة، أو كالخرزة التي تظل معلّقة على الجدار أينما حلّ المرء/ الضحية، أو ارتحل.
تلك الندبة التي تثير عواصف الآلام المديدة التي أبادت "الجسد الوطني"، لا يقتصر تذكرها أو بقاؤها على اللاوعي الفردي، بل تصبح جزءاً من نسيج اللاوعي الجمعي الذي طوّره كارل يونغ، بعد انشقاقه عن أستاذه فرويد، وتحدّث فيه عن الخبرة البشرية الجماعية التي تحفر مأساتها على جدار اللاوعي، وتظل منقوشة ومُستدعاة طوال قرون.
هل تهزم الأحقادُ الحقَّ المزيّف؟ هل تهدم الكراهية الهيكل؟ وهل تبدأ غزوات اللاوعي الجماعي من حيث صمتت دبّابات الأرض وصواريخ السماء؟ التاريخ المفخّخ الذي سيكتبه الضحايا وأنصارهم سيظلّ عابقاً بالدخان والحرائق، حيث لا عدالة إلا إذا نام الضحايا هانئين، ولو طال الزمان.
أن ينتقم الإبداع فهذا أقرب للخير، فليس من الإنسانية، كما قال نيتشه، أن يترفّع مظلوم عن الانتقام!