معركة العرب على جبهة الوعي الأوروبي
د. سعيد المومني
12-08-2025 12:41 PM
* من الشوارع المكبَّلة إلى العواصم المؤثرة
* الاحتجاج كمرآة للبنية المجتمعية
في زمن تتقاطع فيه السياسة مع الأخلاق، وتتصادم فيه المصالح مع القيم، يبرز التناقض الصارخ بين صمت الشوارع العربية المكبَّلة بالقيود، وبين أمواج البشر التي غمرت ميادين لندن وباريس وبرلين ومدريد دفاعاً عن فلسطين. ليس الفارق هنا مجرد مسألة أعداد أو مشاهد احتجاجية، بل هو انعكاس لاختلاف عميق في بنية المجتمعات، وصلابة مؤسساتها، وامتلاكها لأدوات العمل الاحتجاجي المؤثر. ففي أوروبا، التظاهر ليس حدثاً طارئاً أو انفعالًا مؤقتاً، بل ممارسة مؤسسية متجذرة، تنبثق من اتحادات مهنية، ونقابات عمالية، ومنظمات حقوقية راسخة، تتحرك بخطاب منظم، وتتصل بمراكز القرار عبر قنوات شرعية حتى في ظل التضييق أو القمع.
أما في العالم العربي، فإن الشارع، حين يُسمح له بالتعبير، يتحول إلى مساحة رمزية أكثر منه أداة ضغط حقيقية، وغالباً ما يُعاد إنتاجه في صورة انفعالات جماهيرية بلا أثر مؤسسي دائم. ومن هنا يتبدى السؤال الحرج: كيف يمكن للنخب العربية، في ظل عجزها المحلي عن تحريك مسار التغيير، أن تترجم حضورها وخبراتها إلى فعل مؤثر في الساحات الأوروبية، التي، رغم قيودها، ما زالت تتنفس هواءً من الحرية النسبية؟
من العاطفة إلى المنهج .. صياغة الخطاب العربي في أوروبا
تكمن البداية في فهم طبيعة الجمهور الأوروبي ورهاناته القيمية. فالشعارات الموروثة في الشارع العربي، والخطاب العاطفي المحض، لا تُحدث الأثر المطلوب في فضاء سياسي تحكمه منظومة قيمية عقلانية: سيادة القانون، المساواة أمام القضاء، حماية المدنيين، ورفض أشكال التمييز كافة. وعندما نعيد صياغة القضية الفلسطينية داخل هذا الإطار، يتحول النقاش من سردية صراع ديني أو قومي إلى امتحان أخلاقي شخصي لكل فرد أوروبي، امتحان لا يمكن الهروب منه بدعوى البُعد الجغرافي أو الاختلاف الثقافي.
غير أن النقاش حول نقطة البداية يظل قائماً: هل يبدأ الخطاب باعتراف مبدئي بإسرائيل أم لا؟ هناك من يرى في الاعتراف مدخلًا إلى بناء تحالفات وتوسيع قاعدة القبول بالسردية الفلسطينية، فيما يخشى آخرون أن يكون ذلك تفريطاً بالموقف المبدئي. جوهر الأمر ليس في هذه الثنائية، بل في قدرة الخطاب على تفكيك شرعية الممارسات الإسرائيلية وفق معايير القانون الدولي، وتقديمها للرأي العام الأوروبي في صيغة بعيدة عن السجالات الأيديولوجية العقيمة التي لا تغيّر موازين القوى.
دروس من التاريخ .. حين يتجاوز الاحتجاج الشارع
التاريخ يقدّم لنا شواهد حاسمة على أن الاحتجاج، في ذاته، ليس غاية نهائية. ففي الولايات المتحدة، لم يسقط الدعم الشعبي لحرب فيتنام بمسيرات الشوارع وحدها، بل بتحالف واسع جمع المثقفين والجنود السابقين والناشطين، وتمكّن من اختراق الخطاب الرسمي عبر صور دامغة وتوثيقات لا تقبل الجدل. وفي جنوب أفريقيا، لم تنجح المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية والسياسية في إجهاض - نظام الأبارتايد - بفعل التعاطف المجرد، بل بفضل شبكة ضغوط دولية نسجت خيوطها في ساحات القانون والإعلام والاقتصاد.
أما في أوروبا عام 2003، فقد خرج الملايين إلى الشوارع احتجاجاً على غزو العراق، في أكبر موجة مظاهرات منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم أن تلك الاحتجاجات لم تمنع اندلاع الحرب، فإنها نجحت في تقويض شرعية الحكومات التي شاركت فيها. ففي إسبانيا، انهارت شعبية حكومة خوسيه ماريا - اشد داعمي بوش وبلير- بعد تفجيرات مدريد 2004، وخسرت الانتخابات لصالح حكومة أعلنت فوراً سحب القوات من العراق. وفي بريطانيا، واجه توني بلير أضخم مظاهرة في تاريخ البلاد، وظل ملف العراق يطارده حتى استقالته عام 2007 وسط انقسام حاد داخل حزبه. وحتى في إيطاليا، تعرض برلسكوني لضغط شعبي متواصل أجبره على تقليص الوجود العسكري الإيطالي. وهكذا ترسخ في الوعي العام الأوروبي مبدأ مساءلة السلطة عن قراراتها العسكرية، مهما كان الغطاء السياسي أو التحالف الدولي الذي تتكئ عليه.
هذه التجارب تكشف أن الاحتجاجات الفعّالة ليست سوى رافعة ضمن منظومة أشمل من التحالفات، والضغط المؤسسي، والتأثير الإعلامي. وهنا بالضبط تبرز مسؤولية النخب العربية في الانتقال من الهتاف إلى هندسة أدوات التأثير.
اللوبي الصهيوني .. شبكة لا كتلة
عندما نصف «اللوبي الصهيوني» في أوروبا بأنه ليس كتلة صلبة موحّدة، بل «شبكة متشعّبة»، فإننا نصف منظومة ذكية ومرنة تعمل عبر مؤسسات معرفية، ومنصات إعلامية، وقنوات دبلوماسية، ومراكز بحث وتمويل، تتوزع في العواصم الأوروبية، وتستثمر أولًا في صناعة الشرعية والخطاب قبل الضغط على القرار السياسي. وهذا الإدراك يفرض علينا أن نتجاوز ردود الأفعال العاطفية نحو استراتيجية متكاملة تقوم على التغلغل في البنية المعرفية والسياسية نفسها: اختراق مراكز البحث، والانخراط في الجامعات الأوروبية، وفتح مسارات للتبادل الأكاديمي، والمشاركة في إنتاج محتوى بحثي وتحقيقي يمكن أن تستشهد به الصحافة وصانعي القرار على حد سواء.
الاختراق العربي .. من المشاهدة إلى الشراكة الفاعلة
هذا الاختراق لا يعني السعي لشراء الولاءات أو التلاعب بالتحالفات، بل تأسيس شرعية معرفية متينة: ملفات قانونية مُحكمة، دراسات ميدانية موثّقة، وأرشيفات معتمدة دولياً، تجعل من القضية الفلسطينية مادة قابلة للترجمة إلى لغة الحقوق والقوانين الأوروبية. وحين تتكامل هذه الشرعية مع بناء تحالفات مع قوى اليسار الديمقراطي، والمنظمات الحقوقية الليبرالية، والنقابات العمالية، تتحول القضية إلى بند على جدول الأعمال السياسي الأوروبي، بما يفتح الطريق أمام مقترحات تشريعية، وضغوط على البلديات، وحملات مقاطعة قانونية الانضباط.
هنا تستطيع النخب العربية بما في ذلك الأحزاب التي فشلت في تحريك المشهد في أوطانها أن تضيف قيمة عملية مزدوجة: من جهة، تزويد الشركاء الأوروبيين ببحث ميداني دقيق وبيانات قابلة للتوثيق؛ ومن جهة أخرى، إتاحة شبكات الاتصال المؤسسية، والدعم اللوجستي والزمني اللازم، ليتمكن هؤلاء الشركاء من التحرك بسرعة في مواسم الضغط البرلماني والإعلامي. وبهذا تنتقل النخبة العربية من موقع المتفرج على الحدث إلى موقع مهندس الشرعية ومزوّد الأدوات، وتبدّد في الوقت نفسه هواجس التدخل الخارجي، عبر تقديم ما هو مطلوب فعلياً: الدليل، والمصدر، والحجة المهيأة للاستخدام في فضاء القرار.
من رمزية الشارع إلى صناعة الشرعية
إن الساحات الأوروبية التي لا تزال تحتفظ بنبض حر تمثل جبهة متقدمة لمعركة الوعي، جبهة لا ينبغي النظر إليها كامتداد للميدان العربي، بل كفضاء مستقل قادر على تعويض عجزنا الداخلي إذا أحسنّا استثماره. إن النجاح هنا يتطلب تحولاً جذرياً في العقل السياسي العربي: من رد الفعل إلى الفعل، من الرمز العاطفي إلى التحالف المنهجي، من انتظار تضامن الآخرين إلى هندسة خطابنا في البنية التي تصنع القرار الأوروبي.
إن المعركة ليست على التعاطف اللحظي، بل على تثبيت السردية الفلسطينية في الوثائق الرسمية، والتقارير البرلمانية، والذاكرة المؤسسية للشعوب الأوروبية. ومن ينجح في ذلك يضمن أن تصبح فلسطين جزءاً من جدول القيم والالتزامات في تلك المجتمعات، لا مجرد قضية موسمية. أما من يتقاعس عن خوض هذه المعركة، فإنه لا يخسر نفوذه في الحاضر فحسب، بل يتنازل طواعية عن حقه في أن يكون شريكاً في كتابة التاريخ.