نحو سردية وطنية أردنية خالصة هوية لا تُصنع على موائد الآخرين
د. فاطمة العقاربة
16-08-2025 08:54 PM
منذ نشوء الدولة الأردنية، ظلّت مسألة الهوية الوطنية موضع جدل دائم، تتأرجح بين الانتماء المحلي والارتباط الإقليمي، وبين "الأردني" و"الفلسطيني". هذه الثنائية لم تكن يومًا مجرّد توصيف ديموغرافي، بل تحولت إلى محدّد سياسي واجتماعي شكّل الوعي العام، وأحيانًا كبّل إمكانات صياغة سردية وطنية أردنية خالصة. خطورة هذا الارتهان لا تكمن فقط في تهديد الانسجام الداخلي، بل أيضًا في تهميش التاريخ المحلي وتعطيل مشروع الهوية الوطنية القادر على أن يستند إلى الأرض والتاريخ والقيم والشرعية الهاشمية، مع دمج التنوع دون ذوبان فيه.
الجذور التاريخية: الأردن قبل الدولة الحديثة
الأردن ليس وليد النكبة ولا نتاج أزمة إقليمية، بل كيان يمتد بجذوره إلى أعماق التاريخ. فمن حضارة الأنباط التي جعلت البتراء عاصمة للحجارة وللتجارة والعمارة، إلى ممالك مؤاب وأدوم وعمون التي شكّلت معالم الاستقرار السياسي القديم، وصولًا إلى العهد الإسلامي الذي رسّخ حضور الأردن كجزء من بلاد الشام في معارك خالدة مثل مؤتة واليرموك والكرك.
وفي الحقبة العثمانية ظلّت القبائل الأردنية مثل بني صخر والعدوان والحويطات محافظة على استقلاليتها وخصوصيتها، فيما لعبت المدن كالسلط والكرك وعجلون أدوارًا سياسية واجتماعية بارزة، مما جعل الهوية الأردنية مزيجًا من البداوة والتمدّن، ومن الانتماء المحلي والانفتاح على الإقليم.
التأسيس الحديث والشرعية الهاشمية
مع الثورة العربية الكبرى، ارتبط الأردن بمشروع النهضة الذي قاده الهاشميون. ومع وصول الأمير عبد الله بن الحسين إلى معان عام 1921، بدأت مرحلة جديدة عنوانها بناء الدولة الحديثة، التي سرعان ما تطورت إلى إمارة شرق الأردن ذات مؤسسات ودستور.
عام 1946، أعلن الاستقلال تحت اسم "المملكة الأردنية الهاشمية"، وتوّج الملك عبد الله الأول مؤسسًا للكيان السياسي الأردني، في انتقال تاريخي منح الدولة شرعية سياسية ودينية متينة. هذا التأسيس أكد أن الأردن ليس كيانًا طارئًا أو ملحقًا، بل دولة ذات سيادة وامتداد تاريخي.
العوامل التي كبحت سردية أردنية مستقلة
رغم الجذور العميقة والتأسيس الراسخ، اصطدمت محاولات بلورة هوية أردنية خالصة بجملة من العوامل.
أولها اللجوء الفلسطيني بعد 1948 و1967، الذي أضاف ثقلًا ديموغرافيًا وسياسيًا دمج الأردن بالقضية الفلسطينية قسرًا. ثانيها المناهج والإعلام، اللذان ركزا لعقود على ثنائية "الأردن وفلسطين" وأغفلا كثيرًا من الشخصيات والرموز الأردنية المحلية. أما ثالثها فهو التوظيف السياسي للثنائية الأردني/الفلسطيني، التي تحولت إلى ورقة تستخدمها أطراف مختلفة لتعزيز النفوذ أو الشرعية.
نحو سردية وطنية أردنية خالصة
الطريق إلى سردية وطنية مستقلة يستوجب إعادة الاعتبار للتاريخ المحلي والرموز الوطنية. ويبدأ ذلك من التركيز على المحافظات كرموز سياسية واجتماعية ذات طابع وطني، وتوثيق إرثها في المناهج والإعلام.
كما أن تثبيت الشرعية الهاشمية يظل محورًا أساسيًا، من خلال إبراز دور العائلة الهاشمية في ترسيخ الهوية الوطنية وربط الوصاية على القدس بالهوية الأردنية نفسها، لا بمفهوم اللجوء الفلسطيني.
ولا تكتمل السردية دون إحياء الثقافة المحلية: الشعر النبطي، الأمثال، العادات، والرموز مثل الكوفية الحمراء، التي تعبّر عن عمق الانتماء الأردني. وإلى جانب ذلك، فإن إعادة صياغة الخطاب السياسي والإعلامي باتت ضرورة، بحيث يُقدَّم شعار "الأردن أولًا" لا كشعار عابر، بل كمشروع هوية وطنية متكاملة، يستوعب الفلسطينيين في إطار المواطنة لا كمحور مهيمن على التعريف بالذات الأردنية.
التحديات أمام المشروع
لن يكون الطريق سهلًا. فهناك الانقسامات الخفية بين الأردنيين من أصول مختلفة، وهناك الضغط الإقليمي المستمر بفعل القضية الفلسطينية، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية التي يمكن أن تُستغل لتأجيج الانقسام الداخلي. هذه كلها تحديات واقعية تستوجب خطابًا سياسيًا رصينًا ومشروعًا وطنيًا مؤسسيًا.
آفاق المستقبل
رغم الصعوبات، يبقى الأردن قادرًا على بناء مشروع وطني متماسك يجعل منه هوية قائمة بذاتها، لا مجرد امتداد لأزمات الآخرين. فبتوازن بين الأصالة المتمثلة في القبيلة والأرض، والحداثة المتمثلة في الدولة والدستور، يمكن إنتاج سردية ثقافية–سياسية تُعيد للأردنيين ثقتهم بذاتهم، وتمنح الأردن صورة الحاضنة الإقليمية المستقرة التي تنطلق من جذورها لا من تبعات الآخرين.
الهوية الأردنية ليست أسيرة اللجوء الفلسطيني إلا إذا ارتضى الأردنيون ذلك.
إن استدعاء التاريخ، وتثبيت الشرعية الهاشمية، وإحياء الثقافة المحلية، كلها خطوات نحو صياغة سردية وطنية خالصة تستوعب التنوع دون أن تذوب فيه. وهي سردية كفيلة بأن تقدم للأجيال القادمة هوية متينة، تواكب التحديات وتؤسس لمستقبل أكثر استقرارًا وثقة.