القدس .. سفر السقوط والنهوض عبر العصور
د. بركات النمر العبادي
20-08-2025 11:38 AM
لم تكن القدس يومًا مدينةً عادية ، بل قلبًا نابضًا للتاريخ ، ومرآةً تعكس صراع القوى العظمى وأحلام الشعوب ، وجرحًا أبديًا في وجدان الإنسانية ، فمنذ أكثر من ثلاثة آلاف عام ، تعاقبت على أسوارها جيوش الملوك والإمبراطوريات ، وكلٌ جاء مدّعيًا حمايتها ، فترك فوق حجارتها آثار الدم والدموع.
ففي عام 586 ق.م – السقوط الاول للقدس حين أطبقت جيوش نبوخذ نصر على المدينة ، لم يكن السقوط مجرد هزيمة سياسية ، بل انكسارًا لروح مملكة يهوذا فدُمّر الهيكل الأول ، وسُبي أهلها إلى بابل ، وبدأت مرحلة السبي البابلي التي غيّرت ملامح الفكر الديني اليهودي، [المصدر: العهد القديم، سفر الملوك الثاني] .
وفي عام 70م – قام القائد تيطس، باسم روما ، بمحاصر القدس في ثورتها الكبرى، فأحرق الهيكل الثاني وشتّت سكانها ، فيعد ذلك فاتحةً فصل الشتات اليهودي الطويل. [المصدر: (يوسيفوس فلافيوس، "حروب اليهود"] ، وفي عام 614م – قام كسرى الثاني ، مدعومًا من جماعات يهودية ، وانتزع القدس من قبضة بيزنطة ، في مشهد أُريق فيه دم المسيحيين ، قبل أن يعود هرقل في 629م ليستعيدها، [المصدر: تاريخ الطبري] .
في عام 638م – خضعت القدس للفتح الإسلامي ، فبخطى ثابتة وقلب رحيم ، دخل الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب القدس ، مانحًا أهلها عهدةً تحفظ أرواحهم وكنائسهم ، لتصبح المدينة حاضرة إسلامية ومهوى أفئدة المؤمنين، [المصدر: البلاذري، "فتوح البلدان"]
ولكن في عام 1099م – زحف الصليبيين بزحف دموي على القدس ، اقتحم الصليبيون أسوار القدس ، وحوّلوها إلى مملكة لاتينية ، بعد أن أبادوا عشرات الآلاف من المسلمين واليهود، [المصدر: وليم الصوري] .
وفي عام 1187م – استعادت القدس أنفاس النصر ، فمن حطين إلى أسوار القدس، جاء صلاح الدين الأيوبي بوجه الفارس وحلم الأمة ، فاستعادها دون مجزرة ، لتعود تحت راية الإسلام من جديد. [المصدر: ابن شداد، "النوادر السلطانية" .
والحرب العالمية الأولى جلبت الجنرال اللنبي إلى القدس عام 1917 م ، معلنًا نهاية الحكم العثماني وبداية الانتداب البريطاني ، الذي مهّد لقيام المشروع الصهيوني، [المصدر: الوثائق البريطانية] ، وفي عام 1948 م وفي جرح جديد جلب النكبة و التقسيم ، سقطت القدس الغربية بيد العصابات الصهيونية ، وطُرد أهلها ، لتُقسم المدينة بين الأردن وإسرائيل. [المصدر: وثائق الأمم المتحدة]
وفي حرب حزيران عام 1967 م ادى الى الاحتلال الكامل للضفة الغربية و القدس ، حيث ابتلعت إسرائيل القدس الشرقية ، وفرضت تهويدًا ممنهجًا ، لتغدو المدينة أسيرة احتلال الذي يرفض الرحيل، [المصدر: قرارات مجلس الأمن] .
وهكذا، تبقى القدس جرحًا في قلب الأمة ، ووصيةً في عنق التاريخ ، ونداءً يتردّد في أروقة الضمير العربي والإسلامي، يذكّرنا بأن المدن العظيمة لا تُستردّ فقط بالسيوف ، بل بالقلوب المؤمنة والعقول النيّرة ، إننا اليوم ، وإن تفرّقت بنا السبل وتنازعتنا الخطوب ، نحمل في أعماقنا قبسًا من نور عمر بن الخطاب يوم دخلها متواضعًا ، لا سيفه يعلو على الحق ، ولا قلبه يعادي إنسانًا على دينه ، ونستلهم من صلاح الدين يوم فتحها عظمة العفو، إذ جعل النصر جسراً للتسامح لا منصةً للانتقام.
ستنهض الأمة ، ولو بعد حين ، يوم تدرك أن قوتها ليست في عدد جيوشها وحده ، بل في وحدة صفّها ، وسموّ أخلاقها، وصلابة إيمانها بعدالة قضيتها، وحينها، ستعود المدينة إلى أحضانها ، لا أسيرة الجدران ، بل حرةً في فضاء المحبة ، تعانق المآذن أجراس الكنائس ، وتلتقي الوجوه على مائدة السلام العادل ، لا سلام الإذعان.
ذلك اليوم، لن يكون تكرارًا لما مضى، بل ولادة جديدة ، تُعيد للعالم صورة أمة تعرف كيف تحفظ العهد ، وتوفي بالوعد، وتبني من أنقاض الهزيمة منارةً للإنسانية كلها، والقدس، حين تعود، ستعود لا لتكون نهاية حكايتنا، بل بدايتها الجديدة ، بداية حضارةٍ تحرسها العيون الساهرة، وتزهر فيها روح الإخاء ، ويظلّلها وعد الله ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾
(سورة الإسراء، الآية( 7.
حمى الله الاردن و سدد على طريق الحق خطى قيادته الرشيدة وشعبه المعطاء .