من الرمزية إلى المشروع … من خطاب يُستدعى عند الأزمات إلى عقد اجتماعي ينبض بالحياة
لم يتوقف الحديث عن الهوية الوطنية في الأردن يومًا، غير أنّه ظلّ في الغالب حبيس الشعارات الاحتفالية والخطابات الرسمية, بدا وكأن الهوية تُستحضر عند المناسبات أو في لحظات الأزمات، أكثر مما تُترجم إلى مشروع متجذّر في حياة الناس.
واليوم، مع تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية والسياسية الاقليمية، وتنامي التحديات الخارجية حيث ما زالت الاطماع الاسرائيلية حاضرة، يعود السؤال للواجهة ليطرق الأبواب بإلحاح، هل تبقى الهوية ورقة طوارئ مؤقتة، أم يمكن أن تتحول إلى مشروع حقيقي يُعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها؟
هوية في مواجهة العاصفة
لطالما ارتفعت رايات الهوية في وجه العواصف، حين يتآكل المعنى أو يتهدد التماسك الاجتماعي, غير أن الشعارات وحدها لم تعد تكفي، والأسئلة الكبرى ما زالت معلّقة:
• ما مضمون هذه الهوية؟
• وعلى أي أساس تقوم؟
• هل تُبنى على عدالة وشراكة حقيقية، أم تبقى مجرّد دعوة للانتماء من دون أن يقابلها حقّ يعيد للتضحيات معناها؟
خدمة العلم… بين الرمز والمشروع
عودة خدمة العلم تحمل ابعاداً إيجابية، إذابة للفوارق الاجتماعية، تدريب على الانضباط وروح الجماعة، وإحياء لشعور الانتماء في جيل يرزح بين البطالة وثقافة الاستهلاك.
لكن، مهما بلغت هذه الخطوة من رمزية، فإنها وحدها لا تكفي لتشكيل مشروع وطني جامع، فالشاب الذي يستيقظ اليوم على صفارة الثكنة قد يصطدم غدًا بصفارات أخرى:
• أبواب عمل مغلقة،
• بيروقراطية خانقة،
• وقوى رجعية تُطفئ أي مبادرة
إذا لم تتحوّل الخدمة إلى جسر نحو فرص اقتصادية وتعليمية ومهنية وتمكين حقيقي، ستظل تجربة معزولة، وقد تنقلب إلى محطّة شكلية تفقد معناها.
أمثلة تكشف الفراغ
الأمر لا يقتصر على خدمة العلم، فمظاهر الخلل أوسع وأعمق:
• مناهج تعليمية لا تواكب العصر،
• برامج تشغيل بقيت شعارات عاجزة عن مواجهة البطالة،
• حياة سياسية لم تنضج بعد تحدّ من مشاركة الشباب،
• وخدمات حكومية تُثقلها البيروقراطية والواسطة، فتُضعف ثقة المواطن بمؤسسات دولته.
هنا يتضح أن الهوية لا تُبنى بخطاب بل بسياسات متكاملة تمس حياة الناس اليومية.
الهوية كعقد اجتماعي
الهوية الوطنية، في جوهرها، ليست راية تُرفع في المناسبات، بل عقد اجتماعي حيّ يقوم على الثقة المتبادلة.
• عدالة في توزيع الفرص،
• مشاركة حقيقية في القرار،
• وضمانات تحفظ الكرامة الإنسانية
حينها فقط يصبح الولاء فعلًا طوعيًا ذا معنى، لا التزامًا مفروضًا من فراغ.
وليّ العهد بين الرمزية والفرصة
يحمل وليّ العهد بما يمتلكه من طاقة شبابية وقرب من هموم الجيل الجديد رمزية قادرة على إلهام الأردنيين وبعث الثقة في نفوسهم. هذه الرمزية تحتاج إلى حاضنة مؤسسات فاعلة تُحوّلها إلى سياسات ملموسة، فالشباب ينتظرون أن يلمسوا أثر الخطاب في حياتهم:
• وظيفة تُفتح أبوابها،
• خدمة تُقدَّم بيسر،
• ومساحة حرية تُصان.
خطاب وليّ العهد، حفظه الله، فرصة حقيقية لنقل الهوية من إطار الشعار إلى فضاء المشروع، لكنّ الرهان يبقى على قدرة الحكومة على ترجمة هذه الرمزية إلى إصلاحات واقعية تعيد للهوية معناها النابض، وتحوّلها إلى عقد جامع يقوم على العدالة والمشاركة.
ملامح الطريق
الانتقال من الخطاب إلى المشروع يتطلب خريطة واضحة:
1 إصلاح التعليم وربط مخرجات الجامعات بسوق العمل.
2 بناء اقتصاد منتج يفتح آفاق التكنولوجيا والطاقة والزراعة الحديثة.
3 إصلاح إداري يكسر البيروقراطية ويعتمد التحوّل الرقمي كأداة لا كشعار.
4 منظومة نقل عام حديثة ومتعددة الوسائط تضع الرّاكب والوقت والوصولية في صلبها.
5 تعزيز الحريات والمشاركة السياسية للشباب.
6 عدالة اجتماعية تحمي الطبقة الوسطى وتضمن خدمات حكومية نوعية في مجالات التعليم والصحة بانصاف وتأمين السكن.
خاتمة
الأردن بحاجة اليوم إلى هوية تُبنى بالعدل لا بالشعارات، وبالممارسة لا بالاحتفالات، هوية تتحول من راية تُرفع في الأزمات إلى عقد اجتماعي حيّ مرسوم في السياسات.
الهوية هي:
• نهرٌ لا ينضب إن سُقي بالعدل،
• وجذرٌ لا ينكسر إن ارتوى بالثقة.
هوية تُكتب بعرق العامل، وبجهد الطالب، وبأمل الشاب الذي يبحث عن نافذة في جدار المستقبل، عندها فقط، يصبح الأردن أكثر من جغرافيا وحدود؛ يصبح فكرة حيّة وحلمًا قابلًا للتحقق، وبيتًا رحبًا يتّسع للجميع بالإنصاف قبل الشعارات.