على مدار عام تقريبا، انشغل رئيس الحكومة بجولات ميدانية شملت عشرات المواقع والمشاريع، وأثمرت – بلا شك – عن قرارات تنفيذية وإجراءات ملموسة في قطاعات الصحة والتعليم والخدمات. من حيث الجوهر، هذا جهد يُحسب للدولة ويعكس جدية في المتابعة. لكن السؤال المشروع يبقى: هل هذا هو الدور الطبيعي لرئيس الوزراء؟
إن العمل التنفيذي المباشر يقع – في المنطق الإداري – على عاتق الوزراء والأمناء العامين ومديري المديريات، فهم المسؤولون عن التخطيط والتعاقد والإنجاز والمتابعة؛ أما رئيس الوزراء، فوظيفته الأعمق ليست إدارة التفاصيل، بل إدارة السياسة العامة، َفي مقدمتها، صياغة الأولويات الوطنية، وقيادة الحوار مع المجتمع والقوى السياسية، والإشراف على رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى.
حين ينخرط الرئيس في تفاصيل إصلاح مدرسة أو تشغيل مركز صحي، فإن ذلك يترك انطباعا مزدوجا؛ فمن جهة، يثبت أن هناك متابعة جدية، ومن جهة أخرى، يوحي بأن الجهاز التنفيذي عاجز عن القيام بدوره دون حضور الرئيس، الأمر الذي يختزل السلطة التنفيذية في شخص واحد. وهنا تكمن الإشكالية.
في تجارب ديمقراطية اجتماعية معاصرة، نرى أن رئيس الوزراء يتوجه إلى البرلمان بخطاب سياسي يحدد أولويات الحكومة ويخضع للمساءلة، بينما يتولى الوزراء إدارة الميدان. أما النزول المتكرر إلى المحافظات، فيظل من اختصاص الوزراء أو المدراء، مع ما يرافق ذلك من تقارير ومحاسبة.
الرأي العام الأردني لا ينتظر من رئيس الوزراء افتتاح مركز صحي أو متابعة صيانة مسبح، بل يعول من الرئيس على خطاب سياسي واضح يجيب عن الأسئلة الكبرى:
أين تقف الحكومة من ملف معتقلي الرأي الذي يثير قلق الشارع ويطرح تساؤلات حول التوازن بين الأمن والحرية؟
ما هي أولويات الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي تحدثت عنه الدولة في أوراقها الرسمية ومخرجات لجانها؟
وبالتوازي مع ذلك،كيف ستوازن الحكومة بين ضغط الأوضاع الاقتصادية وتحديات الإقليم، خاصة بعد التصعيد الإجرامي المستمر في غزة وتأثيره المباشر على الأردن؟
الأردن اليوم يحتاج من رئيس الوزراء أن يتحدث مع المجتمع السياسي والمدني، يحدد بجرأة موقع حكومته في معادلة التحديث السياسي، ويجيب بوضوح عن جدوى القوانين الجديدة التي أنتجت الأحزاب وأفرزت نتائج الانتخابات، وعن ضمانات احترام الحقوق الدستورية في التعبير والتنظيم. إن غياب هذا الصوت يجعل الدولة تبدو وكأنها منشغلة فقط بـ "إدارة المشاريع"، بينما تُركت السياسة – التي هي قلب وظيفة الحكومة – في الفراغ.
لا خلاف أن الإدارة الميدانية مهمة، وأن المتابعة المباشرة تصنع فارقا، لكن مكان رئيس الوزراء الطبيعي هو في قيادة النقاش الوطني، وتثبيت خيارات الدولة السياسية، وطمأنة المجتمع بأن الحكومة لا تكتفي بإدارة التفاصيل، بل تمسك بالبوصلة الكبرى.