facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




في وادع "القاضي الرحيم"


د. موسى برهومة
23-08-2025 04:00 PM

ما ضاق عيش في عالَم فيه نبيل واحد. وكما أنّ سنونوة واحدة تكفي لإعلان الربيع، فإنّ وجود قاضٍ "رحيم" مثل فرانك كابريو كافٍ لإثبات أنّ فسحة الأمل لا يمكن أن تضيق أو تتلاشى، بل ستتناسل وتنتشر وتمتد، مكملة الرصيد الأخلاقي الذي ادخره القاضي الأميركي الذي نام بهدوء نومته الأبدية، عن 88 عاماً.

القاضي "الطيّب" لم يحدْ قيد أنملة عن النزاهة، لكنه أبصر وأدرك المعنى العميق الثاوي في الغلالات الكثيفة الملتبسة للأحكام، من خلال البحث عن الظروف التي أحاطت بـ"الجُرم"، فجرد مفهوم العدالة من إطلاقيته، وأخضعه لمنطق السلوك الإنساني، وبحث عن خلفيات الفعل والفاعل، وعن الظروف القاهرة (اجتماعياً ونفسياً وبيئياً) التي قادت إلى الفعل، على قاعدة استعادة فكرة "الفطرة" التي يولد عليها البشر، أنقياء من السوء والشر، ولكنّ المحيط يصبغ تلك الفطرة بلونه، أي أنّ الإنسان يولد صفحة بيضاء، بلا أفكار مسبقة، فيما تتكفل التجربة المستقاة من البيئة والثقافة والاجتماع بالكتابة عليها.

رؤية إصلاحية للعدالة

أدرك كابريو، من دون أن يزعم أنه فيلسوف أو مفكر إصلاحي، أنه كذلك بجدارة من خلال تركيزه على مبدأ "حُسن النية" في أحكامه التي كان يصدرها، مشدداً على أنّ الإنسان ليس دائماً صانع أفكاره، بل ثمة إكراهات تجعل أفكاره مفعولاً بها، عندما يكون ناقص الإرادة. لذلك كانت أحكامه تتمتع بالرحمة، لإيمانه الثابت بخير الناس، وقد تجلت رؤيته الإصلاحية في برنامجه التلفزيوني الذي حصد مشاهدات مليارية (Caught in Providence).

الحزن الذي عمّ العالم على رحيله ذو ملمح كثيف الدلالة، ومفاده أنّ العدالة التي هي أساس الدولة إجراءٌ ليس مكلِفاً، وأنها قد تؤدي دورها على النحو الأكمل، إذا امتزجت بالإحاطة المتقنة لظروف الفعل/ الجُرم، وكيفياته ومحدداته، وتعاطفه مع المتهمين، ومداعبته لهم، وإجلاس الأطفال بجواره في قاعة المحكمة، في تصرف مهيب هدفه نزع الهيبة الزائفة التي بالغ في إظهارها القضاء.

وفي الفيديوهات التي بثها من قاعة المحكمة، عفا القاضي الرحيم عن شاب ارتكب مخالفة مرورية، لأنه لم يتمكن من الدفع، بسبب منحه راتبه الشهري لوالدته، وفعل ذلك مع سائق سيارة أجرة مصري، ومع أشخاص سوريين، إذ قال كابريو لأحدهم، تعال حدثني عن سوريا، مثنياً عليه: "أنت رجل صالح، لأنك تخدم بلدك".

الإبصار في عالم أعمى

ومن شأن سيادة هذا النظرة الكلية لمفهوم العدالة الرؤوفة، أن يمثل لحظة عزاء ممتدة للبشر، لأنّ الظلم بمستوياته المتعددة عامّ وطامّ، بحيث يتحول الإبصار في عالم أعمى، إلى مهمة شاقة، وتكاد تغدو مستحيلة، على ما أخبرنا جوزيه ساراماغو، في روايته "العمى".

الروائي البرتغالي، حائز نوبل، يرصد حالة مدينة، لا تحديد لمكانها وزمانها، يجتاحها العمى بشكل مفاجىء ومريع، حتى تضطر الحكومة إلى وضع العميان في حَجْر صحي، وفي ظروف بائسة، إلى أن يصيب العمى كلّ سكان المدينة، باستثناء زوجة طبيب، ظلت مبصرة تراقب تحوّل البشر، بطبقاتهم المختلفة إلى وحوش، وعودتهم إلى الزمن البدائي، حيث الغرائز السفلية وحدَها من يتحكم في المصائر الفردية والجماعية، وحيث تنحطّ القيم الأخلاقية، وتملأ القمامة كل حيّز.

وبعد أن يعود البصر لطائفة من العميان تنهي زوجة الطبيب الرواية: "لا أعتقد أننا عُمينا، بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون".

في هذه الرواية، التي ترجمها إلى العربية محمد حبيب عن منشورات "المدى"، ونقلها المخرج البرازيلي فرناندو ميريلس إلى السينما، يؤكد ساراماغو مشقة أنّ "الأعمى السيء ليس ذاك الذي لا يرى، وإنما الذي لا يريد أن يرى".

وربما كان الروائي البرتغالي، يستبطن ما تختزنه الروح البشرية من طبقات دنيا من الهمجية، مغلفة بإهاب حضاري قِشري سرعان ما يتقصف في لحظة الحرج القصوى، إلا أنه لم يكن يحدس أو يتوقع أو يرجو أن تغدو روايته واقع حال لعالم جفّ في عروقه ماء الخير والرحمة.

ولئن كان الإبصار نعمة، فإنه يغدو عذاباً، لاسيما وأنّ حوادث الإفناء البشري، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية، كما هو حال غزة الآن، أضحت العلامة الأسطع في عالم غالبيته من العميان المبصرين الذين يشاهدون فصول الموت، وهم مضطجون أمام شاشات التلفزة.

صحيح أنّ القدر التراجيدي يطحن أحوال الوجود بآلته الشيطانية الأخطبوطية. وصحيح أيضاً أنّ التسلط والنفوذ والنزعات الإمبراطورية للسيطرة والتمدد غالباً ما تتصادم مع القيم الأخلاقية، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ قوى اللجم والصدود لهذه الموجات "الآثمة" من شرعنة الشر، وتغليب الذرائعية العمياء، تسير بخطى السلحفاة، كأنّ عقل الخير قد جرى الحجْر عليه، وتعطلت لغة الحوار، أو لكأنما الخير قد استقال من التاريخ!

مرهم الأمل

وقد اعتاد من يطرق باب هذا الحديث ألا يوغل كثيراً في التشاؤم، وأن يردد اللازمة التي لا غنى عنها عن "فسحة الأمل" إياها، لكنّ مرهم هذه الكلمات والوعود يصلح لتضميد جرح بسيط، أو شفاء ألم عابر، أو تغذية الانتظارات التي يعوّل عليها البشر، حتى لو كانت "كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماءً"!

إننا في هذه القنطرة الرهيبة، أقرب إلى تفسير ألبير كامو الذي ذهب إلى أنه "إذا كان زماننا يسلّم دونما صعوبة بأنّ للقتل مبرراته، فذلك بسبب عدم الاكتراث بالحياة التي تتميز بالعدمية".

بل، لعلنا، مع انسداد الآفاق، وعدم تبيّن أي شعلة في النفق أو البرزخ الطويل، نسلب من شوبنهور صفة الفيلسوف المتشائم، ونمحضه اعترافاً، بأثر رجعي، أنه كان على حق، ولو أسرف في تشاؤمه، عندما ذهب إلى أنّ الإرادة الكلية في الطبيعة تنصبّ عنايتها على الحفاظ على الحياة في الأنواع، سواء في النبات والحشرات والحيوان والإنسان، من دون أن تلقي بالاً إلى البشر الذين تطحنهم الآلام، ويضنيهم الشقاء، وتعذّبهم المآسي والشرور.

فالحياة كلها، بل الوجود برمته، في نظر شوبنهور، "شرور وأحزان وهزائم، وليس ثمة خير قط، ولا معنى للسعادة". وأقصى ما يتطلع إليه المرء أن تقلّ الشرور في الكون، وأن تتقلص مساحة التعاسة، وتأخذ السكاكين قيلولة من حزّ الأعناق، وقطع الأرزاق، وتسميم الآفاق!

وداعاً فرانك كابريو، أيها الطيب، الرؤوف، الرحيم. لترقد روحك بسلام.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :