facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




النرجسية الاجتماعية وتمثلاتها في الصفوف الأولى


د. بركات النمر العبادي
27-08-2025 10:29 AM

*داء العظمة والنرجسية : وهم القوة وقلق الصفوف الأولى

تظلّ النفس البشرية لغزاً عصيّاً على الإدراك، تتنازعها نوازع الفطرة من جهة ، وأهواء التعظيم والبحث عن الوجاهة من جهة أخرى ، وفي غمرة هذا الصراع ، يطفو على سطح الاجتماع الإنساني مرض قديم بوجه معاصر، هو النرجسية الاجتماعية ، أو ما يُعرف في الأدبيات النفسية بـ اضطراب الشخصية النرجسية ، هذا الداء لا يكتفي بأن يحيا في اعماق الفرد ، بل يتجلّى في سلوكه اليومي ، ملوّحاً بأقنعة التفوق والصدارة ، ومن أبرز مظاهره في مجتمعاتنا العربية الإصرار على الجلوس في الصفوف الأولى ، وكأن هذا الموضع المكاني يملك سلطة سحرية تمنح صاحبها هيبة تفوق هيبة الخُلُق أو العطاء.

وهنا يثور تساؤل جوهري : هل التمسك بالصفوف الأولى مجرّد سلوك عابر، أم أنه انعكاس رمزي لمرض أعمق قوامه تضخيم الذات واستلاب القيمة من المكان لا من الجوهر ؟ وما انعكاس هذا السلوك على البنية الاجتماعية والمؤسسية ، حيث تتداخل الرمزية بالمكانة ، والظاهر بالباطن؟

ومن خلال التحليل النظري لهذا السلوك البشري يتبين:
أولاً: مفهوم النرجسية الاجتماعية
يُعرّف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5 اضطراب الشخصية النرجسية بأنّه : نمط دائم من العظمة (في الخيال أو السلوك)، مقرون بحاجة جامحة للإعجاب وافتقار إلى التعاطف مع الآخرين وإذا كان هذا التعريف ذا طابع طبي نفسي ، فإنّ ترجمته في الاجتماع العربي تأخذ منحى سلوكياً ورمزياً يتجسّد في ممارسات دقيقة، من بينها الهوس بالمقاعد الأولى.

ثانياً: الصفوف الأولى بوصفها رمزاً اجتماعياً
لطالما اقترنت المقاعد الأمامية في المجالس العربية بمكانة الضيف المكرَّم ، أو صاحب الجاه المرموق ، ومع تحوّل هذه الرمزية إلى عادة ذهنية ، يجد النرجسي فيها فرصة لتثبيت صورته المتخيلة عن ذاته ، فالمكان عنده ليس مكاناً مادياً فحسب ، بل هو "مرآة للذات"، يعكس تفوقاً موهوماً ويخفي هشاشة دفينة.

ثالثاً: البعد النفسي والثقافي للسلوك
1. البعد النفسي: محاولة تعويض عقد النقص بشعور مصطنع بالهيمنة.
2. البعد الاجتماعي: تثبيت الوجاهة أمام الآخرين بوصفها ضمانة للاعتراف.
3. البعد الرمزي : اختزال القيمة الإنسانية في موضع جسدي محدّد ، وهو الصف الأول.

إن التمسك بالصفوف الأولى ليس بريئاً في سياق النرجسية ، بل هو عرض مرضي يكشف قلقاً داخلياً وشغفاً بالتفوق الظاهري ، وهذا السلوك يخلّف توتراً اجتماعياً ، إذ يُشعر الآخرين بالتهميش أو يقلّل من قيمة حضورهم ، و في البيئات المؤسسية ، يتحوّل الأمر إلى تنافس غير صحي يضعف روح التعاون ويزرع بذور النزاع ، الأهم من ذلك أن هذا السلوك يفضح هشاشة الهوية الذاتية ، إذ تصبح القيمة مرهونة بموقع مادي ، لا بإنجاز واقعي.

ومن اهم ما يمكن تقديمه من نصح في هذا المقام :
1. إعادة الاعتبار للتربية الأسرية : بغرس قيم التواضع والاعتدال في الأبناء منذ الصغر.
2. المؤسسات التعليمية: إدراج برامج توعية حول الصحة النفسية وأثرها على العلاقات الإنسانية.
3. الممارسة العلاجية: اعتماد العلاج المعرفي السلوكي لتصحيح أنماط التفكير المشوّهة المرتبطة بالهيبة والمكانة.
4. النماذج القدوة: استحضار السيرة النبوية والتجارب التاريخية لزعماء جلسوا بين الناس تواضعاً ، دون أن تنقص هيبتهم أو مكانتهم.

وخلاصة القول إن النرجسية الاجتماعية ليست مجرّد حالة نفسية معزولة ، بل هي ظاهرة حضارية تعبّر عن أزمة في إدراك الذات والآخر، وتجسّدها في الهوس بالصفوف الأولى دليل على تعطّش داخلي للاعتراف ، لا يسدّه سوى مقعد في المقدمة ، غير أنّ الحقيقة الناصعة تبقى كما عبّر عنها الحكماء: المكانة لا تُصنع بالجلوس في الأمام ، بل تُكتسب بالعطاء والتواضع.

حمى اللة الاردن و سدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه


*المراجع
•Kernberg, Otto F. Borderline Conditions and Pathological Narcissism. New York: Jason Aronson, 1975.
•Twenge, Jean M., and Campbell, W. Keith. The Narcissism Epidemic: Living in the Age of Entitlement. New York: Free Press, 2009.
•الهويدي، مصطفى. علم النفس الاجتماعي. القاهرة: دار الفكر العربي، 2018.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :