النرجسية الاجتماعية وتمثلاتها في الصفوف الأولى
د. بركات النمر العبادي
27-08-2025 10:29 AM
*داء العظمة والنرجسية : وهم القوة وقلق الصفوف الأولى
تظلّ النفس البشرية لغزاً عصيّاً على الإدراك، تتنازعها نوازع الفطرة من جهة ، وأهواء التعظيم والبحث عن الوجاهة من جهة أخرى ، وفي غمرة هذا الصراع ، يطفو على سطح الاجتماع الإنساني مرض قديم بوجه معاصر، هو النرجسية الاجتماعية ، أو ما يُعرف في الأدبيات النفسية بـ اضطراب الشخصية النرجسية ، هذا الداء لا يكتفي بأن يحيا في اعماق الفرد ، بل يتجلّى في سلوكه اليومي ، ملوّحاً بأقنعة التفوق والصدارة ، ومن أبرز مظاهره في مجتمعاتنا العربية الإصرار على الجلوس في الصفوف الأولى ، وكأن هذا الموضع المكاني يملك سلطة سحرية تمنح صاحبها هيبة تفوق هيبة الخُلُق أو العطاء.
وهنا يثور تساؤل جوهري : هل التمسك بالصفوف الأولى مجرّد سلوك عابر، أم أنه انعكاس رمزي لمرض أعمق قوامه تضخيم الذات واستلاب القيمة من المكان لا من الجوهر ؟ وما انعكاس هذا السلوك على البنية الاجتماعية والمؤسسية ، حيث تتداخل الرمزية بالمكانة ، والظاهر بالباطن؟
ومن خلال التحليل النظري لهذا السلوك البشري يتبين:
أولاً: مفهوم النرجسية الاجتماعية
يُعرّف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5 اضطراب الشخصية النرجسية بأنّه : نمط دائم من العظمة (في الخيال أو السلوك)، مقرون بحاجة جامحة للإعجاب وافتقار إلى التعاطف مع الآخرين وإذا كان هذا التعريف ذا طابع طبي نفسي ، فإنّ ترجمته في الاجتماع العربي تأخذ منحى سلوكياً ورمزياً يتجسّد في ممارسات دقيقة، من بينها الهوس بالمقاعد الأولى.
ثانياً: الصفوف الأولى بوصفها رمزاً اجتماعياً
لطالما اقترنت المقاعد الأمامية في المجالس العربية بمكانة الضيف المكرَّم ، أو صاحب الجاه المرموق ، ومع تحوّل هذه الرمزية إلى عادة ذهنية ، يجد النرجسي فيها فرصة لتثبيت صورته المتخيلة عن ذاته ، فالمكان عنده ليس مكاناً مادياً فحسب ، بل هو "مرآة للذات"، يعكس تفوقاً موهوماً ويخفي هشاشة دفينة.
ثالثاً: البعد النفسي والثقافي للسلوك
1. البعد النفسي: محاولة تعويض عقد النقص بشعور مصطنع بالهيمنة.
2. البعد الاجتماعي: تثبيت الوجاهة أمام الآخرين بوصفها ضمانة للاعتراف.
3. البعد الرمزي : اختزال القيمة الإنسانية في موضع جسدي محدّد ، وهو الصف الأول.
إن التمسك بالصفوف الأولى ليس بريئاً في سياق النرجسية ، بل هو عرض مرضي يكشف قلقاً داخلياً وشغفاً بالتفوق الظاهري ، وهذا السلوك يخلّف توتراً اجتماعياً ، إذ يُشعر الآخرين بالتهميش أو يقلّل من قيمة حضورهم ، و في البيئات المؤسسية ، يتحوّل الأمر إلى تنافس غير صحي يضعف روح التعاون ويزرع بذور النزاع ، الأهم من ذلك أن هذا السلوك يفضح هشاشة الهوية الذاتية ، إذ تصبح القيمة مرهونة بموقع مادي ، لا بإنجاز واقعي.
ومن اهم ما يمكن تقديمه من نصح في هذا المقام :
1. إعادة الاعتبار للتربية الأسرية : بغرس قيم التواضع والاعتدال في الأبناء منذ الصغر.
2. المؤسسات التعليمية: إدراج برامج توعية حول الصحة النفسية وأثرها على العلاقات الإنسانية.
3. الممارسة العلاجية: اعتماد العلاج المعرفي السلوكي لتصحيح أنماط التفكير المشوّهة المرتبطة بالهيبة والمكانة.
4. النماذج القدوة: استحضار السيرة النبوية والتجارب التاريخية لزعماء جلسوا بين الناس تواضعاً ، دون أن تنقص هيبتهم أو مكانتهم.
وخلاصة القول إن النرجسية الاجتماعية ليست مجرّد حالة نفسية معزولة ، بل هي ظاهرة حضارية تعبّر عن أزمة في إدراك الذات والآخر، وتجسّدها في الهوس بالصفوف الأولى دليل على تعطّش داخلي للاعتراف ، لا يسدّه سوى مقعد في المقدمة ، غير أنّ الحقيقة الناصعة تبقى كما عبّر عنها الحكماء: المكانة لا تُصنع بالجلوس في الأمام ، بل تُكتسب بالعطاء والتواضع.
حمى اللة الاردن و سدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه
*المراجع
•Kernberg, Otto F. Borderline Conditions and Pathological Narcissism. New York: Jason Aronson, 1975.
•Twenge, Jean M., and Campbell, W. Keith. The Narcissism Epidemic: Living in the Age of Entitlement. New York: Free Press, 2009.
•الهويدي، مصطفى. علم النفس الاجتماعي. القاهرة: دار الفكر العربي، 2018.