القارة العجوز وحرب غزة: انقسام يعكس العجز الاستراتيجي
صالح الشرّاب العبادي
31-08-2025 09:23 PM
مع اشتداد الحرب في غزة، بدا الاتحاد الأوروبي مرة أخرى عاجزًا عن صياغة موقف موحد أو اتخاذ خطوات عملية تتجاوز بيانات الشجب والدعوة إلى التهدئة وارسال المساعدات ، هذا العجز ليس عابرًا، بل يكشف عن مأزق بنيوي في السياسة الخارجية الأوروبية، وعن انقسام داخلي يعكس تباين المصالح والهواجس التاريخية والجيوسياسية بين دوله الأعضاء.
انقسام داخلي واضح
تنقسم أوروبا في مقاربتها للحرب إلى معسكرين وآخر ثالث بينهما :
• معسكر مؤيد لإسرائيل: تتقدمه ألمانيا والنمسا والتشيك والمجر، حيث يربط خطاب هذه الدول بين حق إسرائيل في الدفاع عن النفس ، وبين عقدة الهولوكوست والضغط الداخلي من جماعات اللوبي.
• معسكر متعاطف مع الفلسطينيين: مثل إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا وبولندا ، التي طالبت صراحة بوقف إطلاق النار وأقدمت بعضها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية كخطوة رمزية ذات دلالة سياسية .
• دول أخرى مثل فرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ حاولت التموضع في الوسط، توازن بين أمن إسرائيل والمطالب الإنسانية.
هذا الانقسام حسم مبكرًا مسألة القدرة على اتخاذ موقف موحد، لأن السياسة الخارجية الأوروبية تحتاج إلى الإجماع، وهو ما أصبح مستحيلًا في ظل هذا التباين الواضح في المواقف تجاه اسرائيل.
قيود الاتحاد الأوروبي
لا يملك الاتحاد الأوروبي أدوات سياسية أو عسكرية موحدة، بل يظل قوة اقتصادية أولًا تعتمد على الولايات المتحدة وحلف الناتو في الأمن والدفاع. لذلك فإن أي خطوة أوروبية خارج الإجماع الأطلسي تُعد مغامرة غير محسوبة.
وفي حرب غزة، ظلّت واشنطن اللاعب المركزي في إدارة الميدان والسياسة، بينما اكتفت أوروبا بدور المعلّق ، أو المساند الإنساني بدون ترجمة موقف حاسم ضد إسرائيل.
الضغوط الاقتصادية والجيوسياسية
تدرك أوروبا أن أي مواجهة سياسية حادة مع إسرائيل قد تتحول إلى صدام غير مباشر مع الولايات المتحدة، الشريك الاستراتيجي الأول لأمنها ، كما أن حاجتها إلى استقرار الشرق الأوسط لتأمين مصادر الطاقة يجعلها حذرة من اتخاذ مواقف تصعيدية قد تُعقد علاقتها مع أطراف إقليمية أخرى، علاوة على موقفها ضد روسيا وازمة الطاقة .
في المقابل، تواجه الحكومات الأوروبية ضغطًا شعبيًا متصاعدًا، حيث خرجت وتخرج مظاهرات في كبريات العواصم تندد بالمجازر في غزة وتطالب بوقف الحرب ، هذا التباين بين الشارع والسياسات الرسمية كشف عن فجوة عميقة في العلاقة بين المجتمعات الأوروبية ومؤسساتها.
البعد القانوني والإنساني
رغم أن مؤسسات أوروبية دولية، كالمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية استقبلت دعاوى ضد إسرائيل تتهمها بارتكاب جرائم حرب، فإن الحكومات الأوروبية لم تترجم هذا المسار القضائي إلى موقف سياسي فعلي ، اكتفت بالتأكيد على ضرورة احترام القانون الدولي ، دون الضغط لفرض عقوبات أو وقف صفقات السلاح.
دلالات استراتيجية
ما يجري اليوم يعيد التأكيد على حقيقة طالما تم ترديدها : الاتحاد الأوروبي قوة اقتصادية عملاقة، لكنه لاعب سياسي قزم ، انقسامه الداخلي وافتقاره إلى أدوات عسكرية مستقلة واعتماده المفرط على الولايات المتحدة، كلها عوامل تحرمه من القدرة على صياغة سياسة خارجية موحدة.
حرب غزة لم تكشف فقط عن مأساة إنسانية في المنطقة، بل فضحت أيضًا العجز الأوروبي البنيوي عن لعب دور استراتيجي موحد مستقل.
بين بيانات الإدانة والدعوات إلى إدخال المساعدات، لم يقدم الاتحاد الأوروبي موقفًا حاسمًا يوازي حجم الكارثة الإنسانية أو يتناسب مع طموحاته في لعب دور عالمي وبدلاً من اتخاذ موقف حاسم ضد اسرائيل اصطف مع حملة أساطيل المساعدات التي ستتوقف على سواحل المتوسط وتتعفن المواد المحملة ، ومن ثم تعود ادراجها صاغرة بأمر اسرائيل.
أوروبا منقسمة، مترددة، مكبلة بتاريخها وتحالفاتها، عاجزة عن الخروج من عباءة واشنطن بالرغم من قوتها العسكرية ( التحالفية ) وقوتها السياسية والاقتصادية ، وهذا العجز قد يُعيد تعريف مكانتها العالمية في السنوات القادمة، باعتبارها قوة اقتصادية بوزن ثقيل، لكنها بلا أفق اتحادي استراتيجي حقيقي.