في المواجهات الكبرى لا يمكن عزل دور المثقف عن مهمة المقاومة؛ فالثقافة ليست مجرد إسناد معنوي أو تعليق على الأحداث، بل فعل أصيل يسير إلى جانب المقاومة في الصمود وانتزاع الحق. الكلمة، في لحظات التاريخ الحاسمة، تتحول إلى سلاح لا يقل تأثيرا عن البندقية.
لم ينفصل المثقف الحقيقي يوما عن حقه وقضايا شعبه ومجتمعه وتاريخه وأرضه، إلا حين يتخلى عن انتمائه للثقافة نفسها؛ في الحربين العالميتين، انحاز مثقفو أوروبا إلى أوطانهم، وكتبوا دفاعا عنها رغم اختلاف مذاهبهم الفكرية، توحدوا انحيازا للوطن؛ لأن تلك كانت ساعة الحقيقة. وفي فرنسا تحديدا، لعب جان بول سارتر وألبير كامو وآخرون دورا محوريا في مقاومة النازية بالكلمة والفكر، وفي الاتحاد السوفييتي تحولت الثقافة إلى جبهة قتال ثانية خلال الحرب الطاحنة، حيث عزز الأدباء والفنانون الروح المعنوية لشعوبهم. هذه التجارب، ومعها تجارب التحرر في الجزائر وجنوب أفريقيا، تثبت أن الثقافة لا ينبغي لها أن تقف على الحياد في مواجهة الاستعمار والاحتلال.
على النقيض من هذا الموقف الثقافي الأخلاقي المفترض، ما يزال بعض المثقفين العرب مرتبكين أمام ما يجري في فلسطين وفي غزة تحديدا، فيصرّون على توصيف بطولة المقاومة بالمغامرة السياسية أو بالقفز في المجهول، أو تراهم يكتفون بالتباكي على الضحايا والأطفال والجياع، متجاهلين الفاعل الحقيقي للجريمة وهو الاحتلال. إن هذا الموقف الانهزامي لا يقل خطورة في أثره المعنوي عن أفعال العدو، ويستحق الإدانة الأخلاقية والسياسية بالقدر نفسه الذي ندين فيه الاحتلال وجرائمه.
اليوم، تقع على عاتق المثقف العربي مسؤولية تاريخية تلزمه أن يقود معركة السردية والوعي بجرأة ووضوح، من خلال التصدي لفضح خطاب الاحتلال وامتداداته؛ فالمقاومة لا تُستهدف بسلاح العدو وحده، بل أيضا بمحاولات العزل والتشويه والتزييف، والمثقف الذي يتمسك بقيم الحق والحرية والعدالة هو أحد جنود هذه الجبهة، يكتب ليُبقي المعنى حيا في الحياة والكرامة، ويحرص على أن تظل الثقافة في مكانها الحقيقي؛ أي شقيقة المقاومة في معركة التحرر الوطني.