الأردن .. بين الذاكرة والمستقبل
م. عامر البشير
02-09-2025 11:57 AM
ليست الدّول حدودًا صمّاء، ولا خرائطَ تُخطّ بالحبر وحده، بل هي نَفَسٌ ممتدّ بين جذور ضاربة في الأرض وظلالٍ تلوح في الأفق؛ هي مسيرة تتأرجح بين صخب الذاكرة وهمس المستقبل، فيكون الحاضر إمّا جسرًا من نور نحو النهضة، أو هاويةً مفتوحة على الجمود.
الأردن، ضيّق المساحة عظيم المعنى، يقف اليوم عند هذا المفترق؛ بين ذاكرة تتفتّح كزهرة في صخور البترا، وظلّ مستقبل يلمع كبشائر لم تولد بعد.
الامتداد العربي… من الرسالة إلى التحرر
الأمّة العربية لم تُولد من فراغ؛ خرجت من رحم الامتداد، منارة إسلامية وحّدت الجزيرة العربية، وأرسلت ضياءها من الأندلس إلى الصين، وفكر نهضوي حمله محمّد عبده والكواكبي، كالريح تقتلع غفوة الروح لتوقظ الوعي، وحركات تحرر قدّمت نفسها امتدادًا للمقاومة وظلًا يحرس فجر الاستقلال.
لكن هذا الامتداد تحوّل غيرَ مرّة إلى عبء على الروح؛ إذ بقينا أسرى الاستدعاء العاطفي لسطور الأمس، بدل أن نصوغ للغد مشروعه الخاص.
الأردن… الامتداد الهاشمي والظل الإصلاحي
الأردن صفحة من معادلة الضوء والظل؛ امتداد ينطلق من شرعية الثورة العربية الكبرى، ومن جغرافيا تعانق الشرق بالغرب، وظلّ يتراءى في مشروع الدولة الحديثة، حيث القانون مؤسسة، وحيث الاستقرار نافذة على الإقليم، وبين الامتداد والظل يتكوّن الحاضر الأردني كحرف دقيق في قصيدة الزمان، يكتب نفسه وسط عاصفة اقتصادية، وتحوّلات اجتماعية، ورياح سياسية متسارعة.
ثلاثية الحاضر
اقتصاد يتأرجح بين معونة هشّة وحلمٍ بظلّ منتجٍ عادل، كغابةٍ تُسقى بماء العدالة، ومجتمع يعيش بين نسيج قبلي ومدني أصيل، وظلّ تغيّرات سكانية تعيد تشكيل الملامح والهوية، وسياسة تنبض بشرعية هاشمية ضاربة في الجذور، وظلّ مطالب تتفتح كأزهار ربيع متأخر. ولعل السبيل هو عقد اجتماعي جديد، كجسر من طمأنينة يعيد للثقة موقعها، وللطبقة الوسطى قلبها النابض.
ملامح العقد الاجتماعي الجديد
هو ليس نصًا يُسطَّر ولا بندًا يُجمَع، بل هو روح تسري بين الدولة ومواطنيها؛ روحٌ تعيد تعريف العلاقة من جباية وخدمة إلى شراكة ومصير، في هذا العقد، تتحوّل الكرامة والعدالة والحرية من شعارات إلى قيم مؤسسة، ومن شعور عابر إلى قاعدة راسخة، فلا يكون المواطن مستهلكًا لما يُمنح، ولا الدولة ساعية خلف ما يُجبى، بل يلتقيان في منتصف الطريق، شريكين في بناء وطن ينهض من جذور ماضيه ويستظلّ بظلال مستقبله.
إنه ميثاق يعيد للطبقة الوسطى موقعها، ويُعيد للشباب والمرأة صوتهم ومكانتهم، ويجعل من الرقابة الشعبية والمشاركة السياسية جدار الاستقرار وحصن المستقبل، هو صيرورة وطنية تُوازن بين ذاكرة التاريخ وبشارة الغد، لتصنع مشروعًا جامعًا يُجسّد فكرة "الوطن"، وممارسة عادلة في "المواطنة" كأفق لا يُستنفد.
مرايا إقليمية
في مرآة الإقليم، المغرب جمع بين تاج عريق ونافذة إصلاح مشرعة، وتونس حملت ظلًا ثوريًا دون جذر مؤسسي فعثرت في منتصف الطريق، ولبنان غرق بين امتداد طائفي وظلّ ضبابي حتى صار حاضره فوضى بلا ملامح.
والعبرة أنّ الأوطان لا تُبنى بيد واحدة، بل بيدٍ تمسك بالماضي وأخرى تكتب المستقبل.
الذاكرة والخيال
ذاكرة الأردن ليست حجارة صامتة؛ هي صدى البترا وجرش، ومبادئ الثورة العربية الكبرى. وخيال المستقبل ليس شعارات معلّقة، بل أحلام تهمس: "عمّان مدينة ذكية"، "الأردن وادي سيليكون العرب".
غير أنّ الحكمة أن نحرّر الذاكرة من متاحف الزجاج، وأن ننزل الخيال من أبراج السماء إلى أرض تُزرع فيها الأفكار.
خاتمة
الأردن اليوم قصيدة تسأل، هل نستطيع أن نكون ورثة الأمس وبناة الغد معًا؟
إنّ الوعي بالامتداد والظل ليس ترفًا فكريًا، بل وصية للبقاء وتجديد الدم في عروق الوطن، فإن حفظنا الامتداد حيًا كغصن مورق، وألقينا ظلًا مضيئًا كقمر يرافق المسافر، صار الحاضر جسراً نحو الغد، أمّا إن أهملناهما، تحوّل الماضي إلى قيود، والمستقبل إلى سراب
نحن أبناء جذر وظل؛ جذور تنادي من أعماق الأرض، وظلال تلمع كأطياف على صفحة السماء، والحاضر بينهما شرارة، نداء من التراب، وإشارة من الأفق.
الأمم، كالأفراد، تموت إن أنكرت جذورها، وتضلّ إن أعرضت عن ظلالها.
في الأردن، في قلب العروبة، لسنا شهودًا على التاريخ ولا متفرّجين على المستقبل، بل صانعو الامتداد وحُرّاس الظل، نعيد الروح إلى الذاكرة ونمنح الخيال أجنحة، ونمشي بثبات على الحبل المشدود بين الأمس المجيد والغد الممكن.
وهناك فقط يكتمل القول: "إننا امتداد لما كان… وظلّ لما سيكون"، لا كصدى فارغ، بل كفلسفة حياة، ووصية بناء، ووعي بأننا لسنا لحظة عابرة، بل سطرًا ممتدًا في كتاب الأبدية، مكتوبًا بحبر الماضي وممدودًا بظل على صفحات الغد الذي لم يُفتح بعد.
واخيراً نستعيد وجدان شاعر الاردن عرار الذي كان يرى في الأردن كرامةً وهويةً لا تموت، فنكون بحق ورثة الأمس وبناة الغد."