ذكرى المولد النبوي الشريف .. نفحة نور وتجديد عهد
د. بركات النمر العبادي
03-09-2025 10:43 AM
في كل عام، يهلّ علينا الثاني عشر من ربيع الأول ، لا كذكرى زمنية عابرة ، بل كنفحة نور تتنزّل على القلوب ، تعيد إليها صفاء الفطرة ، وتذكّرها بميلاد الرحمة المهداة ، محمدٍ ﷺ ، الذي أشرقت به الأرض بعد أن لامستها حُجب الظلام قال تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين﴾ [الأنبياء: 107].
إنها لحظة تستدعي من الأمة أن تقف خاشعة أمام سرّ الرسالة ، مستحضرةً أن ميلاد الحبيب المصطفى كان ولادةً جديدة للإنسانية جمعاء ، وفي الأردن ، كما في كل أرض أحبّت رسول الله ، يتجلّى هذا الحضور في المساجد العامرة بالذكر ، والمجالس التي تنبض بالقرآن والمدائح ، حيث تلتقي القلوب على ميثاق المحبة والوفاء.
ليس المولد الشريف مجرد مدائح تُقال ، أو أنوار تُضاء ، بل هو تجديد للعهد مع السيرة الطاهرة ، وتذكير أن طريق النجاة يبدأ من استلهام مكارم الأخلاق التي بعث النبي ﷺ لإتمامها، كما قال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (رواه مالك) ، فالأمة التي تُحيي هذه الأخلاق إنما تُحيي روح الرسالة ، وتبني مجتمعات قوامها العدل ، ومحرابها الرحمة ، وغايتها عمارة الأرض بما يُرضي الله.
وليس أعظم شاهد على صدق الحب من مواقف الصحابة الأجلاء ، فهذا الصديق رضي الله عنه ، يوم وفاة النبي ﷺ ، يُعلن للعالم كله: «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» ، ليثبت أن الرسالة خالدة ، وأنها باقية ما بقي الزمان ، أما الفاروق رضي الله عنه ، فكان قلبه يخفق بمحبة لا يضاهيها حب ، حتى قال: «لَأنتَ يا رسول الله أحبُّ إليَّ من نفسي التي بين جنبي». فهكذا يكون الحب الصادق، وهكذا يكون الوفاء.
وإذا كان الأردن يحتفي اليوم بمولد النبي ﷺ ، فإنما يحتفي بروح الوحدة التي تجمع أبناءه ، وبقيم الوسطية والتسامح التي هي عماد أمنه واستقراره. فالمولد الشريف هنا ليس حدثًا شكليًا، بل هو دعوة لارتقاء النفوس ، وتذكير بأن بناء الوطن لا ينفصل عن السير على خطى الحبيب المصطفى ﷺ؛ طريق الرحمة والعدل والصفاء.قال تعالى:
﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
إنها ذكرى تتجدّد لتقول لنا : إن محبة الرسول ﷺ ليست كلمة على اللسان ، بل هي نهج حياة ، وعهد صدق ، وميثاق وفاء ، إنها دعوة لأن يظلّ الأردن ، وسائر أوطان المسلمين ، منارات نور، تحيا بالرحمة التي جاء بها النبي الكريم ، وتبقى وفيّةً لرسالته العطرة ما دامت السماوات والأرض.
وهكذا، يبقى المولد النبوي الشريف ليس مجرد حدث في تقويم التاريخ ، بل سرًّا متجدّدًا في تقويم الأرواح ، ففي كل ميلاد نتذكر أن النور المحمدي لم يُولد في مكة فحسب ، بل يولد في كل قلبٍ يصفو، وفي كل عقلٍ يطلب الهداية ، وفي كل روحٍ تتيقن أن الوجود بلا رحمة باهتٌ مظلم ، إن معنى المولد أعمق من لحظة زمنية ؛ إنه ميلاد متواصل فينا ، يذكّرنا أن الإنسان يولد حقًا حين يستنير بنور الرسالة، ويصير قلبه موضعًا للرحمة التي وسعت السماوات والأرض.
إنه مولدٌ يتجاوز الحجارة والأبنية ، ليمسّ جوهر الكينونة نفسها ؛ فالنبي ﷺ لم يكن فردًا في التاريخ ، بل كان المعنى الذي به يستقيم التاريخ ، والميزان الذي تُوزن به خطى البشرية ، ومن يدرك هذه الحقيقة يعلم أن السير على نهجه ليس واجبًا تعبديًا فحسب ، بل هو تجلٍّ للبحث الأزلي عن الحق والجمال ، عن المحبة التي هي أصل كل وجود ، وعن النور الذي لا ينطفئ.
فالمولد إذن ليس عودةً إلى الماضي ، بل عبورٌ إلى المستقبل بنورٍ خالد ، و هو لحظةٌ يصغي فيها الإنسان إلى همس الأبدية في داخله ، فيجد أن الرسول ﷺ لم يأتِ ليعلّمنا كيف نعيش فحسب ، بل ليعلّمنا كيف نحيا بنور الله ، وكيف نصير بأنفسنا آياتٍ شاهدة على أن الرحمة هي قدر الوجود وغايته.
حمى اللة وطننا الاردن وحفظ قيادته وشعبه.