لا يمكن للديمقراطي إلا أن يكون تنويرياً؛ فالديمقراطية التي تنفصل عن التنوير تتحول إلى محض لعبة شكلية، وإلى واجهة تُخفي وراءها بنِى سلطوية وعلاقات (زبائنية شخصية مصلحية). والتنوير من دون ديمقراطية لا يعدو كونه (خطاب نخبة) يطفو فوق مجتمع مكبل بالمحرمات، لا يجرؤ على مساءلة سلطاته ولا مراجعة موروثاته (الثابتة اليقينية) .
فلنكن صريحين جدا؛ ففي التجربة العربية، كثيراً ما اختُزلت الديمقراطية في صندوق اقتراع يُستدعى عند الحاجة، ثم يُعاد إخفاؤه تحت الطاولة. بل إن بعض القوى السياسية التي تزعم الديمقراطية ترفض التنوير! وتستبدل خطاب العقل بخطاب الغيب واليقينيات الجامدة. وهنا تتكشف المفارقة؛ كيف يمكن لمن لا يؤمن بحرية الفكر أن يحمي حرية المواطن؟
في الأردن، يواجه مشروع التحديث السياسي هذا التناقض الصارخ؛ فالدولة ترفع شعار الإصلاح، لكن المجتمع ما يزال مكبلاً بثقافة تُجرّم الاختلاف وتُكافئ الولاء الأعمى. والمجال العام، الذي هو ساحة الديمقراطية الحقيقية، يتآكل تحت وطأة الخوف من التعبير و(فوبيا) الوصاية الأخلاقية والدينية. إن أي ديمقراطية تُبنى في ظل هذا المناخ ستظل بلا جذور، لأنها تفتقر إلى التنوير الذي يحرر العقل من الخضوع ويزرع الثقة بالمؤسسات.
ولعل الأهم أن يجد هذا اللون التنويري تمثيله الصريح في الحياة الحزبية أولا، فلا يُترك المجال لتيارات محافظة أو شعبوية تحتكر المشهد وتزعم أنها الناطق الوحيد باسم المجتمع؛ لأن التنوير ليس فكرة عابرة أو نخبوية معزولة، بل هو رافد راسخ في وجدان فئات واسعة من الأردنيين الذين يؤمنون بالعقلانية والحرية والمساواة. إن تغييبه عن الحياة الحزبية، أو تهميشه لصالح قوى أكثر صخباً (وادعاء بالديمقراطية) ، يعني عملياً إفقار المجال العام وإضعاف فرص قيام ديمقراطية حقيقية. إن وجود هذا التيار داخل الأحزاب هو شرط أساسي لتوازن الحياة السياسية ولمصداقية مشروع التحديث نفسه.
أثبتت التجارب العالمية أن انتصار التنوير داخل الحياة السياسية هو ما فتح الطريق أمام الديمقراطية المستقرة. ففي أوروبا القرن الثامن عشر، لم تكن الثورة الفرنسية مجرد انتفاضة اجتماعية، بل ثمرة أخيرة لفكر تنويري أرسى مبادئ الحرية والعدل والمساواة. وفي إسبانيا بعد رحيل فرانكو، كان تبنّي خطاب تنويري نقدي داخل الأحزاب والجامعات أساس الانتقال الديمقراطي السلمي. وفي أميركا اللاتينية قاد المثقفون التنويريون في تشيلي والبرازيل الحركات المناهضة للديكتاتورية، فمهّدوا لبناء أنظمة أكثر عدلاً وانفتاحاً. هذه الأمثلة تؤكد أن الديمقراطية لا تُحرس إلا بعقل مستنير يفتح الطريق أمام مجتمع حر حقيقةً ومسؤول على أرض الواقع.
إن الديمقراطية بلا تنوير ليست سوى واجهة باهتة، أما التنوير بلا ديمقراطية فهو محض ترف فائض. وحده الجمع بينهما يصنع مشروع دولة مدنية عادلة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بوضوح، وبقناعة نجزم أن الديمقراطية القائمة على المساواة والعدالة والحرية والتضامن وقيم المواطنة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون والشفافية هي أساس الشرعية السياسية الحقيقية التي لا بد أن نعمل لها وندعمها جميعا.